ولكني مدحت بك المديحا
فلا تخرجن كلمة حتى تزنها بميزانها، فتعرف تمامها ونظامها ومواردها ومصادرها، وتجنب - ما قدرت - الألفاظ الوحشية، وارتفع عن الألفاظ السخيفة، واقتضب كلاما بين الكلامين.
الجاحظ: ما رأيت قوما أمثل طريقة في البلاغة من هؤلاء الكتاب؛ فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا ولا ساقطا سوقيا.
وقال خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى كلام، وأحسنه ما لم يكن بالبدوي المغرب، ولا القروي المخدج، الذي صحت مبانيه، وحسنت معانيه، ودار على ألسن القائلين، وخف على آذان السامعين، ويزداد حسنا على ممر السنين بتجلية الرواة، وتنقية السراة، والكاتب المستحق اسم الكتابة والبليغ المحكوم له بالبلاغة؛ من إذا حاول صنعة كتاب سالت على قلمه عيون الكلام من ينابيعها، وظهرت من معادنها، وتدرب من مواطنها عن غير استكراه ولا اغتصاب.
حدثنا صديق للعتابي قال له: اعمل لي رسالة واستمده مرة بعد أخرى. فقال له: ما أرى بلاغتك إلا شاردة! فقال له العتابي: لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة فأحببت أن أترك كل معنى يرجع إلى موضعه ثم أجتبي لك أحسنها.
أملى يزيد بن عبد الله أخو دينار على كاتب له، وأعجل عليه الإملاك، فتعثر قلم الكاتب عن تقييد إملاله، فقال متحرشا: اكتب يا حمار. فقال الكاتب: أصلح الله الأمير إنه لما هطلت شآبيب الكلام، وتدافقت سيوله على حرف القلم كل القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده، فليتذكر الأمير عذري، فكان جوابه أبلغ من بلاغة يزيد، وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشد اتصالا بالقلوب وأخف على الأفواه، ولا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما للفظ مونق شريف، ومعبرا بكلام مؤلف رشيق لم يشنه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة:
قفاه وجه حسن والذي
قفاه وجه يشبه الشمسا
فهجن المعنى بتوعر مخارج الحروف، وأخذه الحسن بن هاني فسهله، وقال:
بذ حسن الوجوه حسن قفاكا
صفحه نامشخص