اعلم أن من أوقع الأمور في الدين وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال وأضرها بالعقل وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار؛ الغرام بالنساء، ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفك يأجم ما عنده وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
وإنما النساء أشباه وما يرى في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده، أفضل مما تتوق إليه نفسه، وإنما المترغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس، كالمترغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس، بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلا وتفاوتا، مما في رحالهم من النساء.
ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس في لبه، يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال، حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك عن أمثالها، ولا يزال مشغوفا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأنا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء.
ومن لم يحم نفسه ويظلفها ويجلها عن الطعام والشراب والنساء في بعض ساعات شهوته وقدرته؛ كان أيسر ما يصيبه من وبال أمره انقطاع تلك اللذات عنه، بخمود نار شهوته، وضعف عوامل جسده، وقل من تجد إلا مخادعا لنفسه في أمر جسده عند الطعام والشراب والحمية والدواء، وفي أمر مروءته عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دينه عند الريبة، والشبهة والطمع.
إن استطعت أن تنزل نفسك دون غايتك في كل مجلس ومقام ومقال ورأي وفعل فافعل؛ فإن رفع الناس إياك فوق المنزلة التي تحط إليها نفسك، وتقريبهم إياك في المجلس الذي تباعدت عنه، وتعظيمهم من أمرك ما لم تعظم وتزيينهم من كلامك ورأيك ما لم تزين، هو الجمال.
لا يعجبنك العالم ما لم يكن عالما بمواضع ما يعلم، إن غلبت على الكلام وقتا، فلا تغلبن على السكوت؛ فإنه لعله يكون المراء، واعرفه، ولا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة والمجادلة، واعلم أن المماري هو الذي لا يحب أن يتعلم ولا يتعلم منه؛ فإن زعم زاعم أنه إنما يجادل في الباطل عن الحق؛ فإن المجادل - وإن كان ثابت الحجة ظاهر البينة - فإنه يخاصم إلى غير قاض وإنما قاضيه الذي لا يعدو بالخصومة إلا إليه عدل صاحبه وعقله؛ فإن آنس أو رجا من صاحبه عدلا يقضي به على نفسه فقد أصاب وجه أمره، وإن تكلم على غير ذلك كان مماريا.
إن استطعت ألا تخبر أخاك عن ذات نفسك بشيء إلا وأنت محتجن عنه بعض ذلك التماسا لفضل الفعل على القول، واستعدادا لتقصير فعل إن قصر فافعل، واعلم أن فضل الفعل على القول زينة، وفضل القول على الفعل هجنة، وأن إحكام هذه الخلة من غرائب الخلال.
إذا تراكمت الأعمال عليك، فلا تلتمس الروح في مدافعتها بالروغان منها؛ فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو يخففها، وإن الضجر منها هو يراكمها عليك، فتعهد من ذلك في نفسك خصلة قد رأيتها تعتري بعض أصحاب الأعمال: أن الرجل يكون في أمر من أمره فيرد عليه شغل آخر، ويأتيه شاغل من الناس بكره تأخيره، فيكدر ذلك بنفسه تكديرا يفسد ما كان فيه، وما ورد عليه حتى لا يحكم واحدا منهما؛ فإن ورد عليك مثل ذلك، فليكن معك رأيك الذي تختار به الأمور، ثم اختر أولى الأمرين بشغلك فاشتغل به حتى تفرغ منه، ولا يعظمن عليك فوت ما فات، وتأخير ما تأخر، إذا أعملت الرأي معمله، وجعلت شغلك في حقه.
اجعل لنفسك في كل شيء غاية ترجو القوة والتمام عليها، واعلم أنك إن جاوزت الغاية في العبادة صرت إلى التقصير، وإن جاوزتها في حمل العلم صرت من الجهال، وإن جاوزتها في تكلف رضا الناس والخفة معهم في حاجاتهم كنت المصنع المحشود.
اعلم أن بعض العطية لؤم، وبعض البيان عي، وبعض العلم جهل؛ فإن استطعت ألا يكون عطاؤك خورا، ولا بيانك هذرا، ولا علمك جهلا، فافعل.
صفحه نامشخص