وعلى العاقل ألا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي والزلل في العلم والإغفال في الأمور؛ فإن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرا وصغيرا، فإذا الصغير كبير، وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع، فإذا لم تسد أوشكت أن تنفجر بما لا يطاق، ولم نر شيئا قط قد أتي إلا من قبل الصغير المتهاون به.
قد رأينا الملك يؤتى من قبل العدو المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به، وأقل الأمور احتمالا للضياع الملك؛ لأن ليس منه شيء يضيع وإن كان صغيرا إلا اتصل بآخر يكون عظيما.
وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا، وإن ظن أنه على اليقين.
وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويف الرأي وإسعاف الهوى، فيخالف ذلك ويلتمس ألا يزال هواه مسوفا، ورأيه مسعفا.
وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره، من نصب نفسه للناس إماما في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة، والرأي واللفظ والأخدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه؛ فإنه كما أن كلام الحكمة يؤنق الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.
ولاية الناس بلاء عظيم.
وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه التي بها يقوم وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير، والمبالغة في التقدم، والتعهد الشديد، والجزاء العتيد.
أما التخير للعمال والوزراء؛ فإنه نظام الأمر ووضع مؤنة البعيد المنتشر؛ فإنه عسى أن يكون بتخيره رجلا واحدا قد اختار ألفا؛ لأنه من كان من العمال خيارا فسيختار كما اختير. ولعل عمل العامل وعمل عماله يبلغون عددا كثيرا، فمن تبين التخير؛ فقد أخذ بسبب وثيق، ومن أسس أمره على غير ذلك لم تجد لبنيانه قواما، وأما التقديم والتوكيل؛ فإنه ليس كل ذي لب أو ذي أمانة يعرف وجوه الأمور والأعمال، ولو كان بذلك عارفا لم يكن صاحبه حقيقا أن يكل ذلك إلى علمه دون توقيفه عليه وتبيينه له والاحتجاج به عليه، وأما التعهد فإن الوالي إذا فعل ذلك كان سميعا بصيرا، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصنا حريزا، وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن، والراحة من المسيء.
لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا تنفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف. وأعمال السلطان كثيرة، وقلما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد، وإنما الوجه في ذلك والسبيل إليه الذي يستقيم به العمل، أن يكون صاحب السلطان عالما بأمور من يريد الاستعانة به، وما عند كل رجل من الرأي والغناء، وما فيه من العيوب؛ فإذا استقر ذلك عنده عن علمه، وعلم من يأتمن وجه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة والأمانة ما يحتاج إليه فيه، وأن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك ويتحفظ من أن يوجه أحدا وجها لا يحتاج فيه إلى مروءة إن كانت عنده، ولا يأمن عيوبه وما يكره منه.
ثم على الملوك، بعد ذلك، تعهد عمالهم، وتفقد أمورهم؛ حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا إساءة مسيء.
صفحه نامشخص