رسائل الأحزان: في فلسفة الجمال والحب
رسائل الأحزان: في فلسفة الجمال والحب
ژانرها
1
وكان النساء كلهن شجرا أخضر لأورقت عليك وأثمرت، فإن فيك وفيها القوة والسبب، ومن مثل هذه القوة وهذا السبب تخرج معجزات الحب»، آه لو صح ذلك، إن بعض الرجال يكون في صفاته كذبا على الرجال فهذه والله كذب على النساء، ولو جاز لقلت: إنها ولدت خطأ في هذا الجلد؛ بل ما وضعها الله فيه إلا لعلمه بها، وليجعل منها علما لمن شاء أن يدرس بروح الرجل المحب أو المبغض جمالا شاذا في روح امرأة تحتمل الحب والبغض معا، لم يكن في وفيها القوة والسبب بل القوة والقوة، وما كنا إلا كدولتين متحالفتين تمنع قوتهما أن تعتدي واحدة على واحدة، ويشق ذلك عليهما فتعبران عن لفظ القوة بلفظ أرق وأجمل وهو المحالفة؛ ثم يرق هذا اللفظ فتخرج منه الصداقة، ثم ترق هذه فيجيء منها الحب، ولا حب هناك ولا صداقة ولا محالفة، بل هي أساليب سياسية في لغة القوة حين تخشى وحين تطمع.
لقد أذكرتني بالشجرة اليابسة يوما جميلا وكلاما أجمل منه فإنا باعث به إليك، وإن كان قد بعد به العهد؛ إذ وقع أول معرفتي بها في قرية ... بلبنان، هناك زهر أصفر يلوح للعين كوجوه الدنانير يسمونه «الوزال» وهو طيب الرائحة، ولكنه خبيث النبتة لا يكون إلا في مثل الرماح من الشوك، وكان لها ولع شديد بهذا الزهر لطبع من أشواكها وأشواكه فقد نلت من كليهما ... وسنحت لها على زهرة منه فراسة زاهية مصبوغة فوثبت إليها واشتدت وراءها، وكانت الفراشة تفوتها وتستطرد لها، وتعبث بها عبثا بين أن تلوح وتختبئ، ثم رجعت «الفراشة الكبيرة» بعدما انقطعت وقد تزاحمت الأنفاس على صدرها، وجعل قلبها يغيظني بدقاته غيظا شديدا؛ إذ كان يخفق من البهر والإعياء لا من شيء آخر ... وتساقطت تحت شجرة من التين فلما أراحت وثابت إليها نفسها قالت: فراشة لا تبلغ عقدة إصبع من ثوبي وتعنيني هذا العناء كله ثم أرتد عنها خائبة؟ قلت: بل خائبة خيبة المفلس يعدو يومه وراء «الدينار الطائر» فلا يدركه، فاجتذبتها إلي كلمة «الدينار الطائر»، ومن خصائصها أنها لا تعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري، وسأستوفي لك هذا في رسالة أخرى، إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خديها وخلابتها وسحرها؛ صفاء اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض، وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها؛ تحبك كما تحب كلمة تكتبها أو معنى تتخيله، فإذا سئمتك لم تكن عندها إلا الثالثة ... إلا صحيفة تمزقها ... •••
ورفعت رأسها إلى الخيمة الخضراء ثم قالت: هذه شجرة تين، قلت: وماذا في أنها شجرة تين؟ قالت: ألا تعرف تينة الإنجيل؟ قلت: وإن في الإنجيل لتينة ليست كغيرها؟ قالت: كان من خبرها
2
أن المسيح مر في جماعته وهو جائع فرآها من بعيد فينانة خضراء تهتز كأنها تدعوه ولم يكن إبان هذه الفاكهة؛ فعدل إليها لعله يجد فيها شيئا يطعمه فلم يجد غير ورقها الذي لا يؤكل، فقال لها: خسئت لا يأكلن منك أحد ثمرا بعد اليوم، وانحدروا إلى أورشليم؛ ولما أصبحوا انقلبوا فمروا بشجرة التين فإذا هي خاوية قد نزعت ثوب نضرتها والتفت في كفن من اليبس وماتت واقفة، فرماها بطرس بعينيه وقال: انظر يا سيد إن هذه التينة التي مردت عليك فلعنتها قد ماتت وثراها حي بعد.
قلت: هذه لعمري هي المعجزة، تموت الشجرة وثراها حي، وتجري اللعنة في أعوادها فتتشرب ماءها وتتركها يبسا لا تصلح إلا للحريق، وتنقلب الشجرة الخضراء في ليلة من خشب الله إلى خشب الناس، ولكن ما ذنب الشجرة المسكينة إذا لم يكن موعد فاكهتها ويريدها المسيح على غير طبيعتها؟ قالت: فإن الذنب في إخضرارها كأنها ذات ثمر، قلت: أوليس للثمر وقت قد مضى وهل الشجرة إلا شجرة؟ أم تحسبينها تدير الشمس وتقلب الفصول لتعقد الماء ثمرا حلوا؟ ألا إن الشمس تدور ثم يحين الفصل ثم ينعقد الماء ثم يحلو التين فينضج فيؤكل، قالت: إنك لتجيء بالدواهي فماذا تقول أنت؟
أقول: اعلمي أن فيلسوفا يونانيا كان قبل المسيح،
3
وكان يرى أن تلك الشجرة ومثلها مما سفل وعلا من قدم الكون إلى ذؤابته إنما هي الإرادة البشرية بعينها إلا أنها لم تكتمل لعلة ما، فكأن العالم عند هذا الفيلسوف إنسان غير سوي ذهب طوله في عرضه فلم يعرف شيء من شيء، وكأن الإنسان هو العالم الذي نما وتم، فالشجرة إن لم تكن من الإرادة كما يقول هذا الفيلسوف فهي من الحياة، وقد التقى منها ومن المسيح إنسان حي وشيء حي؛ والتقيا على خلاف انقلبت فيه إلى حياة ذات إرادة، وإرادة ذات كبرياء، وكبرياء في رعونة يختال بها جذع خشبي غائر في الأرض على جذع روحاني باسق في السماء؛ وتتيه عشبة الطين على زهرة الفلك الأعلى، والكبرياء كانت من شرها أول ما تمرد به الشيطان على الله،
صفحه نامشخص