رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء
رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء
ژانرها
واعلم يا أخي أن أحد أسباب حركة الهواء هو أن صعود البخار من البحار والبراري والقفار أثار من البحار بخارا رطبا، ومن البراري والقفار دخانا يابسا أصعدتها بحرارتها في الهواء، فيدفع الهواء بعضه بعضا إلى الجهات، فيتسع المكان للبخارين الصاعدين، فإن كان الدخان اليابس أكثر كانت منه الرياح؛ لأن تلك الأجزاء إذا صعدت إلى أعلى كرة النسيم وبردت ومنعها برد الزمهرير عن الصعود إلى فوق عطفت عند ذلك راجعة إلى أسفل ودافعت الهواء إلى الجهات الأربع، فكانت منها الرياح المختلفة.
واعلم أن الرياح كثيرة التصاريف في الجهات الست، ولكن جملتها أربعة عشر نوعا، المعروف منها عند جمهور الناس أربع، وهي: الصبا والدبور والجنوب والشمال، وذلك أن الهواء إذا تموج من المشرق إلى المغرب يسمى ذلك التموج ريح الصبا، وإذا تموج من الجنوب إلى الشمال يسمى التيمن، وإذا تموج من المغرب إلى المشرق يسمى دبورا، وإذا تموج من الشمال إلى الجنوب يسمى الجربيا، فأما ما كان تدافعه إلى بين هذه الجهات فيسمى النكباء، وهذه ثمانية أنواع.
وأما التي تهب من أسفل إلى فوق، فمنها تكون الزوابع، وهما ريحان تلتقيان وتصعدان كما يلتقي الماء في الكرادات، وعند نزوله في البلاليع والثقب.
وأما التي تهب من فوق إلى أسفل فمنها الريح الصرصر التي أهلكت عادا، وذلك أنها نفخت عليهم غربي ديارهم من خلل الغيم من كرة الزمهرير التي فوق كرة النسيم ثمانية أيام ولياليها كما ذكر الله تعالى، وإذ ذكرنا ماهية الريح وكمية أنواعها وجهات هبوبها، فإنا نريد أن نذكر علة تصاريفها في الجهات، وما الغرض منها، وذلك أن أحد الأغراض من تصاريفها هو أن تسوق الغيم من سواحل البحار إلى البلدان البعيدة والبراري المقصودة بها، وأيضا فإن أحد الأغراض من الجبال الشامخة الطوال المسطوحة على بسيط الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا هو أن تمنع الرياح من سوق السحاب إلى غير البلدان والبراري المقصودة بها، وذلك أن هذه الجبال الراسيات تقوم لمنع الرياح أن تنصرف إلى كل الجهات، إلا الجهة المقصودة بها مقام المسنات والبريدات للأنهار والسواقي المانعة لها أن تفيض المياه، إلا إلى المزارع والمواضع المقصودة بها، وذلك أن كثيرا من البلدان والبراري بعيدة من سواحل البحر، ولو لم تكن هذه الجبال الطوال الشامخة المانعة للرياح السائقة للغيوم لما وصلت السحاب والأمطار إلى تلك البلدان والبراري، كما أن الأنهار والسواقي إذا لم تكن لها مسنات وبريدات فاضت إلى الآجام والغدران والبطائح حيث يقل الانتفاع بها فلا تبلغ إلى البلدان البعيدة إلا بأنهار تحفر وبريدات تعمل، ولهذه الجبال الشامخة غرض آخر: وذلك أن في أجوافها مغارات وأهوية واسعة، فإذا هطلت في الشتاء في رءوسها الأمطار والثلوج وذابت غاضت المياه في تلك المغارات والأهوية، وصارت فيها كالمخزونة، وفي أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تخرج منها المياه المخزونة في تلك المغارات والأهوية، وهي العيون، وتجري منها جداول وتجتمع بعضها إلى بعض وتسيل منها أودية وأنهار تجري بين المدن والقرى والسوادات فتسقي وهي راجعة إلى البحار والآجام والغدران في ممرها الزروع والأشجار ومواضع العشب والكلأ، وما يفضل منها ينصب إلى البحار والآجام والغدران وتلطفها الشمس وتصعدها بخارا من الرأس وتكون منها الغيوم والسحاب وتسوقها الرياح إلى المواضع المقصودة بها كما كان عام أول، وذلك دأبها أبدا، ذلك تقدير العزيز العليم.
فصل
فانظر يا أخي إلى هذه العناية الإلهية الكلية، والسياسة الربانية الحكمية، وتفكر فيها، واعتبرها، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وتنفتح لها عين البصيرة، فتنظر بنور العقل إلى هذا الصانع الحكيم المدبر لهذه الأمور، كما نظرت بعين الجسد إلى هذه المصنوعات التي نحن في ذكرها، فتكون من الشاهدين الذين مدحهم الله - تعالى - فقال: @QUR06 إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال: @QUR08 وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ثم قال: @QUR018 شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم وإذ قد فرغنا من ذكر الرياح، فسنذكر الغيوم والأمطار والندى والجليد والضباب والطل والسحاب والرعود والبروق والبرد، إذ كانت موادها البخارات الصاعدة كما ذكرنا قبل.
واعلم يا أخي أنه إذا ارتفعت البخارات في الهواء، وتدافع الهواء إلى الجهات، ويكون تدافعه إلى جهة أكثر من جهة، ويكون من قدام له جبال شامخة مانعة، ومن فوق له برد الزمهرير مانع، ومن أسفل مادة البخارين متصلة، فلا يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء، وتتداخل أجزاء البخارين بعضها في بعض، حيث يسخن ويكون منها سحاب مؤلف متراكم، وكلما ارتفع السحاب بردت أجزاء البخارين، وانضمت أجزاء البخار الرطب بعضها إلى بعض، وصار ما كان دخانا يابسا ريحا، وما كان بخارا رطبا ماء وأنداء، ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض وتصير قطرا بردا وتثقل فتهوي راجعة من العلو إلى السفل، فتسمى حينئذ مطرا، فإن كان صعود ذلك البخار الرطب بالليل والهواء شديد البرد منع أن تصعد البخارات في الهواء، بل جمدها أولا فأولا، وقربها من وجه الأرض فيصير من ذلك ندى وصقيع وطل، وإن ارتفعت تلك البخارات في الهواء قليلا وعرض لها البرد صارت سحابا رقيقا، وإن كان البرد مفرطا جمد القطر الصغار في حلل الغيم فكان من ذلك الجليد أو الثلج، ذلك أن البرد يجمد الأجزاء المائية ويختلط بالأجزاء الهوائية فينزل بالرفق، فمن أجل ذلك لا يكون لها على وجه الأرض وقع شديد كما يكون للبرد والمطر، فإن كان الهواء دفيئا ارتفع البخار في العلو وتراكم السحاب طبقات بعضها فوق بعض، كما يرى في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوف متراكمة بعضها فوق بعض، فإذا عرض لها برد الزمهرير من فوق غلظ البخار وصار ماء، وانضمت الأجزاء بعضها إلى بعض وصارت قطرا، وعرض لها الثقل أخذت تهوي من أعلى سمك السحاب، ثم تتراكم وتلتئم تلك القطر الصغار بعضها إلى بعض، حتى إذا خرجت من أسفلها صارت مطرا كبيرا، فإن عرض لها برد مفرط في طريقها جمدت وصارت بردا قبل أن تبلغ إلى الأرض، فما كان منها من أعلى السحاب هو الذي يصير بردا، وما كان من أسفل السحاب كان مطرا مختلطا مع البرد.
ومن أحب أن يعلم صدق قولنا، ويتصور كيفية وصفنا صعود البخارين، وكيفية تأليف السحاب منها، ونزول القطر فلينظر إلى تصعيدات المياه وتقطيرها، وكيف يعمل منها أصحابها مثل تصعيد ماء الورد والخل المصعد وما شاكلها، ومثل البخارات الصاعدة في بيوت الحمامات وكيفية تقطير الماء من سقوفها، وذلك أن سطح كرة الزمهرير الذي يلي كرة النسيم والجبال الشامخة حوالي البحار تقوم لمنع البخارين الصاعدين الذين يتكون منهما السحاب والأمطار أن يتبددا، ويتغشيا حيطان الحمامات وسقوفها لمنع البخار الصاعد فيها أن يتبدد ويتغشى، وأيضا فإنها تقوم مقام القرع والأنبيق في تصعيد رطوباتها وتقطيرها، وبمثل هذين يدبر أصحاب الصنعة عقاقيرهم في تصعيد رطوباتها وتقطير مياهها.
وأما البروق والرعود فإنهما يحدثان في وقت واحد، ولكن البرق يسبق إلى الأبصار قبل الصوت إلى المسامع؛ لأن أحدهما روحاني الصورة وهو الضوء، والآخر جسماني وهو الصوت، كما بيناه في رسالة الحاس والمحسوس، وأما علة حدوثهما فهي البخاران الصاعدان إذا اختلطا في الهواء والتف البخار الرطب على البخار اليابس، الذي هو الدخان، واحتوى برد الزمهرير على البخار الرطب وضغطهما، فانحصر البخار اليابس في جوف البخار الرطب، والتهب في جوف البخار الرطب وطلب الخروج دفعة، وانخرق البخار الرطب وتفرقع من حرارة الدخان اليابس كما تتفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها النار دفعة واحدة، وحدث من ذلك قرع في الهواء واندفع إلى جميع الجهات، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفية الصوت وانقدح من خروج ذلك البخار اليابس الدخاني ضوء يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المطفأ إذا أدني من سراج مشتعل ثم ينطفئ، وربما يذوب ذلك البخار ويصير ريحا، ويدور في جوف السحاب ويطلب الخروج، فيسمع له دوي وتقرقر، كما تسمع من الجوف المنتفخ ريحا، وربما ينشق السحاب دفعة واحدة بشدة فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صوت الصاعقة، كما يحدث من الزق المنفوخ إذا وقع عليه حجر ثقيل فيشقه.
فصل
صفحه نامشخص