146

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

ژانرها

واعلم أن بعض أفعال النفس في الجسم بزمان، وبعض أفعالها بلا زمان، دلالة على أن جوهرها فوق الزمان؛ لأن الزمان مقرون بحركة الجسم، والجسم مفعول النفس، وأن النفس لما جعلت الجسم الكلي كري الشكل الذي هو أفضل الأشكال؛ جعلت حركته أيضا الحركة المستديرة التي هي أفضل الحركات.

(4) فصل في ماهية الزمان من أقاويل العلماء

أما الزمان عند جمهور الناس فهو مرور السنين والشهور والأيام والساعات، وقد قيل إن عدد حركات الفلك بالتكرر، وقد قيل إنه مدة يعدها حركات الفلك، وقد يظن كثير من الناس أن الزمان ليس بموجود أصلا إذا اعتبر بهذا الوجه، وذلك أن أطول أجزاء الزمان السنون، والسنون منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا سنة واحدة، وهذه السنة أيضا شهور منها ما قد مضى، ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا شهرا واحدا، وهذا الشهر منه أيام قد مضت، وأيام لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا يوما واحدا، وهذا اليوم ساعات، منها ما قد مضت، ومنها ما لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا ساعة واحدة وهذه الساعة أجزاء، منها ما قد مضى، وآخر ما جاء بعد، فبهذا الاعتبار ليس للزمان وجود أصلا.

فأما الوجه الآخر إذا اعتبر؛ فالزمان موجود أبدا، وذلك أن الزمان كله يوم وليلة أربع وعشرون ساعة، وهي موجودة في أربع وعشرين بقعة من استدارة الأرض تكون حولها دائما، بيان ذلك أنه إذا كان نصف النهار في يوم الأحد مثلا في البلد الذي طوله تسعون درجة، فإن الساعة الأولى من هذا اليوم موجودة في البلدان التي طولها من درجة إلى خمس عشرة درجة، والساعة الثانية موجودة في البلدان التي طولها من ست عشرة درجة إلى ثلاثين درجة، والساعة الثالثة موجودة في البلد الذي طوله من إحدى وثلاثين درجة إلى خمس وأربعين درجة، والساعة الرابعة موجودة في البلدان التي طولها من ست وأربعين درجة إلى ستين درجة، والساعة الخامسة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وستين درجة إلى خمس وسبعين درجة، والساعة السادسة موجودة في البلدان التي طولها من ست وسبعين درجة إلى تسعين درجة، والساعة السابعة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وتسعين درجة إلى مائة وخمس درجات، والساعة الثامنة موجودة في البلدان التي طولها مائة وست درجات تمام مائة وعشرين درجة، والساعة التاسعة موجودة في البلدان التي طولها مائة وخمس وثلاثون درجة، والساعة العاشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وخمسين درجة، والساعة الحادية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وخمس وستين درجة، والساعة الثانية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وثمانين درجة.

وفي مقابلة كل بقعة من هذه البقاع من استدارة الأرض ساعات الليل موجودة كل واحدة كنظيرتها، ولكل موضع من الأرض أقدار مختلفة من الليل والنهار، والشمس تضيء في نصف الأرض أبدا حيث كانت، ويستر قطر الأرض عن نصفها الآخر الذي كان أشرق على نصفها الذي يلي الشمس، فيكون ما طلعت عليه الشمس نهارا، وما سترت بقطرها عن نصفها من ضوء الشمس ليلا، وكلما دار النهار دار الليل معه كل واحد منهما ضد صاحبه، وكلما زال أحدهما زال الآخر معه، فالليل والنهار يبتديان الإقبال من مشرق الأرض ثم يسيران على مسير الشمس فيسبق طلوع الشمس على أول الأرض طلوعها على آخرها باثنتي عشرة ساعة، وكذلك الليل، فإن شككت فيما قلنا فاسأل أهل الصناعة الناظرين في علم المجسطي يخبروك بصحة ما قلناه، فإنه قد قيل استعينوا على كل صناعة بأهلها.

ثم اعلم أن من كرور الليل والنهار حول الأرض دائما يحصل في نفس من يتأملها صورة الزمان كلها، يحصل فيها صورة العدد من تكرار الواحد؛ وذلك أن العدد كله أفراده وأزواجه، صحيحه وكسوره، آحاده وعشراته ومئاته وألوفه ليست بشيء غير جملة الآحاد تحصل في نفس من يتأملها كما بينا في رسالة العدد، وهكذا الزمان ليس هو بشيء سوى جملة السنين والشهور والأيام والساعات تحصل صورتها في نفس من يتأمل تكرار كرور الليل والنهار حول الأرض دائما، فهذه الخمسة الأشياء التي أتينا على شرحها وهي: الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة محتوية على كل جسم، فمن لم يكن مرتاضا بالنظر في هذه الأشياء فلا يسعه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كنه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضا في الأمور الطبيعية فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية؛ لأنه لا يمكنه أن يعرفها كنه معرفتها.

فتفكر فيما ذكرنا يا أخي في هذه الرسالة من أقاويل العلماء لتفهم ما قالوه، وتصور ما وضعوه من معاني هذه الأشياء، فإن كان عندك زيادة عليها أفدناها، وإن أنكرت شيئا مما قالوه فبينه لنا، وإن اشتبه عليك شيء مما حكيناه فلا تتهمنا بأننا قصرنا في البيان أو قلنا ما ليس بالحق.

ثم اعلم أن لكل صناعة أهلا، ولكل أهل علم وصناعة أصولا هم فيها متفقون، وفي فروعها يتكلمون، وعلى تلك الأصول يقيسون فيما يختلفون.

واعلم بأن النظر في الأمور الطبيعية جزء من صناعة إخواننا الكرام، أيدهم الله تعالى، والأمور الطبيعية هي الأجسام وما يعرض لها من الأعراض اللازمة والمزايلة، وقد عملنا في هذه العلوم سبع رسائل أولها هذه الرسالة التي ذكرنا فيها الهيولى والصورة والحركة والمكان والزمان؛ إذ كانت هذه الأشياء الخمسة محتوية على كل جسم، وقد ذكرنا في رسالة الحاس والمحسوس الأشياء العارضة للأجسام بقول وجيز، ثم يتلو هذه الرسالة التي ذكرنا فيها السماء والعالم، ووصفنا فيها تركيب الأفلاك وكميتها وسعة أقطارها وسرعة دورانها وعظم الكواكب وفنون حركاتها وأوصاف البروج وتخصيصها، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها الكون والفساد وماهية الأركان الأربعة التي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض وصفنا فيها كيفية استحالة بعضها إلى بعض وحدوث الكائنات منها ، ثم يتلوها الرسالة الرابعة التي فيها حوادث الجو والتغييرات التي تحدث في الهواء، ثم يتلوها الرسالة الخامسة التي ذكرنا فيها جواهر المعادن، ووصفنا كيفية تكونها في باطن الأرض وجوف الجبال وقعر البحار، ثم يتلوها الرسالة السادسة التي ذكرنا فيها أمر النبات ووصفنا أجناسه وأنواعه وخواصه ومنافعه ومضاره، ثم يتلوها الرسالة السابعة التي ذكرنا فيها أجناس الحيوانات وأنواعها واختلاف طباعها بقول وجيز.

وقد عملنا خمس رسائل أخر قبل هذه الرسالة في الرياضيات؛ أولها رسالة العدد وخواصه وكيفية نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين، ثم يتلوها الرسالة الثانية التي ذكرنا فيها أصول الهندسة وأنواع المقادير وكيفية نشوئها من النقطة التي هي في صناعة الهندسة كالواحد في العدد، ثم يتلوها الرسالة الثالثة التي ذكرنا فيها النجوم، ووصفنا الأفلاك والكواكب وبينا أن نسبتها إلى الشمس كنسبة العدد من الواحد ومنشأ مقادير الهندسة من النقطة، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها النسبة العددية والهندسية والتأليفية وأن منشأها كلها من نسبة المساواة كمنشأ العدد من الواحد وكمنشأ مقادير الهندسة من النقطة، ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها المنطق ووصفنا فيها المقولات العشرة التي كل واحد منها جنس الأجناس وبينا كمية أنواعها وخواصها وأن الواحد منها هو الجوهر والتسعة الباقية هي الأعراض وتعلقها في وجودها بالجوهر كتعلق العدد بالواحد الذي قبل الاثنين، وقد تكلم في هذه الأشياء من قبلنا من الحكماء الأولين ودونوها في الكتب، وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن من أجل أنهم طولوا فيها الخطب، ونقلوها من لغة إلى لغة أغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها، وضاعت في الباحثين معرفة حقائقها، من أجل هذا عملنا هذه الرسائل وأوجزنا القول فيها شبه المدخل والمقدمات؛ لكيما يقرب على المتعلمين فهمها ويسهل على المبتدئين النظر فيها.

صفحه نامشخص