132

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

ژانرها

(2) فصل في بيان العلة الداعية إلى تصنيف القياسات المنطقية

اعلم يا أخي بأن الحكماء الأولين لما نظروا في فنون العلوم وأحكموها واستخرجوا الصنائع العجيبة وأتقنوها واستنبطوا عند ذلك لكل علم وصناعة أصلا، منه تتفرع أنواعه، ووضعوا له قياسا يعرف به فروعها وميزانا يتبين به الزائد والناقص والمستوي منها، مثل صناعة العروض التي هي ميزان الشعر يعرف بها الصحيح والمنزحف من الأبيات، ومثل صناعة النحو التي هي ميزان الإعراب يعرف بها اللحن والصواب في الكلام، ومثل الأسطرلاب الذي هو ميزان يعرف به الأوقات في صناعة النجوم، ومثل المسطرة والبركار والكونيا التي هي موازين في أكثر الصنائع يعرف بها الاستواء من الاعوجاج، ومثل المكيال والذراع والشاهين والقبان التي هي موازين يعرف بها الزائد والناقص والمستوي في البيع والشراء في معاملات التجار، ومثل الحساب الذي هو ميزان العمال وأصحاب الدواوين.

واعلم يا أخي بأن هذه المقاييس والموازين هي أحكام بين الناس؛ نصبها الله الباري - جل ثناؤه - بين خلقه قضاة وعدولا تحكم بالحق فيما يختلف الناس فيه من الحكم بالحزر والتخمين؛ لكي ما إذا تحاكموا إلى الموازين والمكاييل والمقاييس حكمت بينهم بالحق، وقضي الأمر، وانفصل الخطاب، وارتفع الخلف، فلما رأى الحكماء المنطقيون اختلاف العلماء في الأقاويل والحكم على المعلومات بالحزر والتخمين بالأوهام الكاذبة ومنازعتهم فيها وتكذيب بعضهم بعضا وادعاء كل واحد أن حكمه الحق وخصمه المبطل، ولم يجدوا لهم قاضيا من البشر يرضون بحكمه؛ لأن ذلك القاضي أيضا يكون أحد الخصوم فرأوا من الرأي الصواب والحكمة البالغة أن يستخرجوا بقرائح عقولهم ميزانا مستويا وقياسا صحيحا؛ ليكون قاضيا بينهم فيما يختلفون فيه لا يدخله الخلل، وإذا تحاكموا إليه قضى بالحق وحكم بالعدل، لا يحابي أحدا وهو القياس الذي يسمى البرهان المنطقي المماثل للبرهان الهندسي الذي يشبه البرهان العددي.

(3) فصل في القياس المنطقي

واعلم بأنه لما كان مقياس كل صناعة وميزان كل بضاعة متخذا من الأشياء التي تشاكلها من موضوعاتها؛ كالموازين التي يعرف بها الأثقال بصنجات لها ثقل وميزان المساحة الذي تعرف به أبعاد أشياء لها أبعاد، وهي الذراع والباب والأشل، ومثل المسطرة التي تعرف بها الأشياء المستوية؛ فهكذا قاس الذين استخرجوا البرهان المنطقي وقالوا: إن اختلاف العلماء فيما يدعون من الحق والباطل والصواب والخطأ الذي في ضمائرهم لا يتبين لنا إلا في أقاويلهم من الصدق والكذب، وإن الأقاويل الصادقة والكاذبة لا تعرف إلا بميزان وقياس يقاس بها ويوزن.

ولما كان الميزان أيضا لا يكون إلا من أشياء تجمع وتركب ضربا من التأليف حتى تصير ميزانا يمكن أن يوزن به ويقاس عليه، مثال ذلك الميزان الذي تعرف به الأثقال، فإنه مجموع من كفتين وعمود وخيوط وصنجات، فهكذا سلكوا في اتخاذ الميزان المنطقي الذي يسمى البرهان وبدءوا أولا فذكروا الأشياء التي منها يكون الميزان والموزون جميعا في قاطيغورياس، ثم ذكروا في بارامانياس كيف تركب وتؤلف تلك الأشياء حتى يكون منها ميزان ومقياس، ثم ذكروا في أنولوطيقا الأولى كيف يعتبر ذلك الميزان حتى لا يكون فيه الغبن والاعوجاج، ثم ذكروا كيفية الوزن به حتى يصح ولا يدخل الخلل في أنولوطيقا الثانية.

(4) فصل في أن الحكم على الأشياء بالعقل والحث على تحري الصواب

واعلم يا أخي بأن الإنسان قادر على أن يقول خلاف ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل؛ وذلك أنه يمكنه أن يقول: زيد قائم قاعد في حال واحدة، ولكن لا يمكنه أن يعلم ذلك؛ لأن عقله ينكره عليه، فلما كان هذا هكذا فلا ينبغي أن ينزل بالحكم على قول القائلين، ولكن على حكم العقول.

واعلم يا أخي بأن أهل كل صناعة يحرصون على حفظ أنفسهم من الخطأ والزلل في صناعتهم، وذلك أن أهل كل علم يتجنبون الخطأ ويتحرون الصواب والحق، ويجتهدون في ذلك، فينبغي لإخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، ومن يتعاطى منهم المنطق الفلسفي أن يحفظ أقاويله من التناقض من أولها إلى آخرها؛ فإن من المتكلمين من يحفظ أقاويله من التناقض في مجلس واحد أو عدة مجالس، ولكن قل من يحفظ كل أقاويله من أوائلها إلى أواخرها حتى لا يناقض بعضها بعضا.

مثال ذلك من قال في كتاب له: إن من شأن النفس أن تتبع مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر: إن النفس مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر لا أدري ما النفس، أو مثل من يعتقد بأن الله - عز وجل - خلق الخلق لينفعهم، ثم يقول ويعتقد بأنه لا يغفر لهم ولا يخرجهم من النار. ومثل من يعتقد بأن المكان جسم أو عرض حال في الجسم، ثم يعتقد أنه يبطل الجسم ويبقى المكان فارغا، ومثل من يقول: إن الجزء لا يتجزأ، ثم يعتقد بأن له ست جهات، وهو يشغل الحيز، وما شاكل ذلك من الأقاويل المتناقضة والآراء الفاسدة يعتقدها إنسان واحد في نفسه ثم يتعاطى مع هذا المنطق الفلسفي والبرهان الحقيقي.

صفحه نامشخص