قالت: لك الخيار في ذلك. ونهضت فنهض وخرجا فرافقها إلى قرب منزلها وودعها وعاد يلتمس بيت الغفاري للمبيت وهو لا يدري أن الرجل في جملة المقبوض عليهم وقد أصبح بيته موضع شبهة ولا كانت خولة تعلم ذلك.
وكان الجند بعد القبض على أهل ذلك الاجتماع قد ساقوهم في الأغلال إلى السجن وكان عمرو ينتظرهم في داره فلم يصبر على رؤيتهم إلى الصباح فلما أخبروه بالقبض عليهم أمر باستقدامهم إليه واحدا واحدا فرأى بينهم جماعة ممن لم يكن يخطر له أنهم على غير دعوة بني أمية وخصوصا الغفاري. ولما وصل إلى عبد الله عرف أنه من بني أمية وتذكر قرابته من أبي رحاب ولكنه تجاهل عن ذلك كله وأمر أن يسجن كل من هؤلاء في حجرة على حدة وبعث جندا يبتغون منازلهم ويقبضون على من فيها من الرجال لعلهم يطلعون على شيء جديد وهو معول على إعدامهم بعد ذلك. ولم يكن الجند يحتاج إلى أمر للنهب وقد أصبحت منازل أولئك العلويين وما فيها مالا حلالا لهم. فما صدقوا أن أمروا بالبحث فيها حتى حملوا عليها وأوغلوا فيها سلبا ونهبا.
الفصل الثالث والأربعون
البغتة
وكان سعيد قد نزل في بيت الغفاري فسأل عن صاحبه فأخبره أهل المنزل أنه خرج من الظهر ولم يعد فلم يخطر له أنه في جملة المقبوض عليهم فالتمس الحجرة التي وضع فيها ثيابه وهم بالرقاد ولم يكد يلقي رأسه على الفراش حتى تراكمت عليه الهواجس فأخذ يفكر في عبد الله وماذا عسى أن يفعل لإنقاذه وخاف إذا أبطأ في المسير إلى الكوفة أن ينفذ ابن ملجم بغيته فيذهب سعيهم عبثا.
وفيما هو في هذه الهواجس وقد طار نومه سمع لغطا في الدار ولم تمض برهة حتى علت الضوضاء وضج الناس فوقف وتنصت فإذا برجال عمرو قد دخلوا المنزل وأوغلوا في النهب ومن تعرض لهم آذوه فأيقن أنهم آتون إلى حجرته وتحقق أنهم مؤذوه فتقلد حسامه والتفت يمينا وشمالا لعله يجد مخرجا ينجو به بنفسه فسمع صوتا يناديه من وراء الحجرة فاستأنس بالصوت ثم عرف أنه صوت خولة ولم يكن له سبيل إلى مشاهدتها غير نافذة عالية لا يشرف منها إلا إذا صعد على مرقاة فاحتال في الصعود إليها وأطل وكان الظلام حالكا ولكنه رأى شيخا وسمع صوت خولة تقول له: «إن الشرطة سيفتكون بكل من في المنزل وإذا رأوك آذوك فإليك هذا الخمار والجلباب فالبسهما وافتح الباب واخرج فيظنوك امرأة فلا يتعرضون لك» فلم يصدق أنه سمع ذلك حتى مد يده وتناول الخمار والجلباب وتنكر بهما وتخمر وهو يرقص من الرعشة مخافة أن يسبق أجله فيدخل الشرطة قبل خروجه.
فلم يكن إلا كلمح البصر حتى لبس وتلثم بالخمار وفتح باب الغرفة وخرج بزي امرأة فرأى الضوضاء لاتزال مرتفعة والنهب جاريا فلم يتعرض له أحد فالتمس الشارع وراء البيت حيث كانت خولة واقفة وهو مع دهشته وبغتته لم يتمالك عن الإعجاب بشهامتها والإقرار بفضلها عليه. وفيما هو يفكر بها رآها تمشي أمامه فاقتفى خطواتها حتى وصلا إلى منفرد فوقفت وقالت له: «الحمد لله على سلامتك وسلامة الإمام علي» فلم يفهم مرادها فابتدرته قائلة: «لا تعجب لقولي فإن حياة الإمام علي تتوقف على حياتك إذ ليس هنا من يعلم الخطر الذي يتهدده سواك نعم إني أعرفه أيضا ولكني لا أضمن اقتداري على الذهاب ولا آمن الاعتماد فيه على أحد».
فقال: «وأنا إنما أبغي البقاء حيا لأقوم بإنقاذ هذا الإمام من القتل والفضل بالحقيقة لك أنت فأخبريني كيف عرفت بالخطر المحدق بي حتى جئت بهذه الحيلة».
قالت: «علمت من والدي أن عمرا أمر بنهب منازل أولئك العلويين والقبض على من فيها من الرجال والمال وأخبرني أيضا أن هذا الغفاري كان في جملة المقبوض عليهم وقد علمت أنك نازل في منزله فجئت إليك بهذه الحيلة فالحمد لله على سلامتك».
فشعر سعيد بفضل خولة وأحس بانعطاف نحوها ولكن حبه قطاما مازال غالبا عليه قابضا على قلبه لا يترك له سبيلا إلى سواها.
صفحه نامشخص