فلما آنس عبد الله ذلك الثبات فيه استعجله في الذهاب إلى قطام مخافة أن يطرأ عليه ما يضعف عزيمته. وكان عبد الله قد عول في باطن سره إذا آنس فيه ترددا أن يثنيه عن الذهاب إليها. فلما فرغا من الطعام نهضا ومشيا يلتمسان بيت قطام.
ولا حاجة بنا إلى بيان ما جال في خاطر سعيد مما سيقاسيه ساعة اللقاء من الاضطراب ولكنه سار مطمئن الخاطر لما ألقته إليه لبابة من المواعيد.
ووصلا المنزل فأطلا على الحديقة فاختلج قلب سعيد في صدره لتذكره الليلة التي لقي بها قطاما هناك وما وقع له معها من تبادل عبارات الغرام. فدخلا الحديقة وفيما هما يسيران بين النخيل رأيا لبابة واقفة بالباب وهي تبتسم. فلما رآها سعيد استبشر وتشدد فمشى ورفيقه يسير في اثره حتى دنوا منها فحياها سعيد كأنه لم يرها بعد رجوعه. فسلمت عليه فقدم لها رفيقه فعرفهابه فرحبت بهما ودخلا حتى أقبلا على غرفة قطام فإذا هي واقفة إلى نافذة تطل على البحيرة وقد لبست جلبابا أسود فوقه خمار أسود فلما أقبلا أرخت خمارها وتحولت نحوهما فحياها سعيد وذكر اسم رفيقه لها وهو يقول: «لقد أتيت ومعي صديقي وأخي عبد الله فإنه أنيسي ومساعدي».
فرحبت بهما ودعتهما للجلوس فجلسا وجلست هي وكلهم سكوت وبعد السكوت برهة تكلمت العجوز قائلة: «لقد أوحشتنا يا سعيد بغيابك طول هذه المدة وقد أخبرنا ريحان أنك أتيت يوم سفرك إلى هذا المنزل فلم تر قطاما فشغلت بالنا لسرعة ذهابك فعسى أن يكون خيرا».
فتنهد سعيد وقال: كلا إنه لم يكن خيرا يا خالة لأني ذهبت إلى جدي أبي رحاب في مكة إجابة لدعوته على يد أخي عبد الله.
فأظهرت لبابة البغتة وقالت: وماذا عسى أن يكون سبب استدعائك.
قال: إنه دعاني لأراه قبل موته بعد أن هرم وغلب عليه الضعف والمرض ولما تحقق دنو أجله أراد أن يراني قبل الممات فسرت ولم ألبث معه إلا ليلة ثم قضى نحبه رحمه الله.
فتظاهرت قطام باستغراب الخبر كأنها لم تسمعه قبلا. وقالت: «هل مات جدك؟.. رحمة الله عليه وعزاك الله وأبقاك». ثم تنهدت كأنها تذكرت فقيديها وقالت: إن موت الأهل شديد الوطأة يا سعيد وخصوصا إذا كان الميت لم يهرم مثل أبي رحاب.
وكان عبد الله يراقب حركات قطام وكان قد سمع بجمالها فلم يلم سعيدا على افتنانه بها ولكنه خاف أن تبقى على عهدها فتخرج من نصيب سعيد فود الاستطراق إلى الموضوع ليرى ما يبدو منها ثم تذكر أن وجوده هناك لأول مرة قد يكون باعثا على تجنب البحث في ذلك الموضوع فتظاهر بغرض يحتاج إليه خارجا ونهض وخرج وخرجت لبابة في اثره إتماما لحيلتها.
الفصل السابع والعشرون
صفحه نامشخص