وكأن شيخنا الراقد قد دله قلبه المستيقظ على مجيء حفيده فتحرك وتململ ثم فتح عينيه البراقتين وأجال نظره في جوانب الغرفة حتى وقع على سعيد فتبسم. فلما رآه سعيد قد استيقظ جثا أمام فراشه وهم بتقبيل يديه. فرفع أبو رحاب ذراعيه وضم سعيدا إلى صدره وطفق يستنشق رائحة عنقه وخديه بلهفة وسعيد يطاوعه بكل حركة يريدها. فأطال أبو رحاب عناقه وسعيد صار حتى أحس بماء ساخن ينحدر على خده علم أنها دموع سخية ولكنه لم يدر دموع الحزن هي أم دموع الفرح. على أنه خاف على جده فاستأذنه ونهض عن صدره فرآه يحاول الجلوس فأعانه عليه بيده ونظر إليه وهو جالس فانذهل لشدة ضعفه حتى تخيله قفصا من عظام استدل على ذلك مما انكشف من عنقه إلى أعلى الصدر.
أما أبو رحاب فأخذ يصلح لحيته وشاربيه ويمسح عينيه ثم تنحنح ومد يده إلى سعيد فعلم هذا أنه يريد يده فدفعها إليه فأمسكها أبو رحاب بين يديه. فأحس سعيد كأنها مقبوضة بأصابع من حديد ليبوسة أنامله وجفاف جلدها وبرودتها ولكنه شعر بارتعاشه ارتعاشا متواصلا هو من دلائل الضعف الشديد.
الفصل الثاني عشر
انقلاب غريب
ومازال سعيد يتخيل في جده الضعف الشديد حتى سمع صوته فإذا هو كما يعهده جهوري رنان. فاستأنس به واطمأن باله لسماعه. وأول كلمة سمعها منه قوله «الحمد لله على مجيئك سالما. لقد أطلت الغيبة علي يا ولدي».
قال: لقد جئتك سريعا حالما علمت برغبتك في ذلك كيف أنت الآن وبماذا تشعر يا جداه.
قال: كنت أحسبني على شفا الموت ولكنني لما رأيتك وأمسكت يدك شعرت برجوع قواي. فأنا الآن كما تعرفني من عشر سنوات وكأن الله شدد عزيمتي لأتمكن من تزويدك بنصيحة هي آخر ما أتلفظ به في هذه الحياة.
قال«إني أشتاق لنصائحك في كل حين ولكنني أرجو أن يمد الله في أجلك لتشهد زواجي بقطام» ثم التفت يمنة ويسرة لئلا يسمعه أحد فرأى المكان خاليا من الناس فقال بصوت منخفض: «وتفرح بما سيتقدم ذلك من الانتقام الذي طالما تاقت نفسك إليه».
فنظر الشيخ إليه بعينين رأي سعيد بريقهما من خلال الحاجبين وكان قوس الشيخوخة واضحا حولهما ثم سمع جده يقول: «أما زواجك بقطام فقد فهمته وسرني بلوغك مرامك وأما الانتقام فلم أفهم علاقته بها».
فتبسم وقال ألا تذكر يا جداه ما قمنا به منذ أعوام وقام به كل بني أمية من المطالبة بدم الخليفة المقتول ظلما. وهل تجاسر أحد على الانتقام بقتل القاتل ليخلو الجو لنا.
صفحه نامشخص