فقال سعيد للرسول «كنا خارجين الآن إلى الغوطة لنبيت فيها ونصبح إلى الكوفة فأرى بعد أن حملنا أحمالنا أن نظل في طريقنا إلى الغوطة فنبيت هناك ونصبح في الغد نلتمس الفسطاط» فساروا جميعا حتى وصلوا بعد الغروب إلى بحيرة صغيرة حولها أشجار التفاح والمشمش والسفرجل والخوخ تتخللها أشجار الحور وقد علت نقنقة الضفادع يتخللها حفيف الأشجار وصفير الصراصير وهبوب الريح وتغريد الطيور مما يشرح الصدر ويندر مثاله في غير تلك الغوطة.
فحطوا احمالهم واشتغل بلال ورفيقه بإعداد العشاء مما حضر ولا يحلو الطعام هناك إلا بالفاكهة.
وكان بلال يعرف صاحب ذلك البستان وقد نزل عنده ليلة قدومه من الفسطاط فترك سعيدا والرسول ومشى بين الأشجار تحت جنح الظلام يلتمس بيت البستاني. ولم يمش برهة حتى أخطأ الطريق لتكاثف الأشجار وجعل يتلمس في مسيره وهو لا يزداد إلا ضلالا وبعدا حتي أصبح بينه وبين رفاقه ميل وبعض الميل وهو لا يدري فوقف يتفرس من بين الأشجار لعله يرى نورا أو يتبين المنزل من وراء الأفق. ولبث برهة يعمل فكرته ويحاول أن يعرف الجهة التي ترك فيها رفاقه لكي يعود إليهم ولو بلا شيء.
وفيما هو يفكر وقد هدأ الجو وسكنت الطبيعة لا يسمع فيها غير نقنقة الضفادع عن بعد وإذا بصوت أجفله وهو جعير جمل عقبه جعير جمل آخر فعلم أن القادمين ركب أمسى عليهم المساء قبل الوصول إلى المدينة. فمكث ينتظر وصولهم ليخاطبهم ويستفهم منهم عن الطريق. وكان قد أسند ظهره إلى شجرة فتطاول بعنقه وتنصت ليتحقق الجهة التي سمع الصوت منها فسمع لغطا وكلاما استلفت انتباهه فأصاخ بسمعه فإذا بقائل يقول «دعنا ننزل هنا يا ريحان فإذا أصبحنا دخلنا دمشق لأني أخاف أن يستغشونا إذا دخلناها في الظلام ... ألا تظننا في أمان هنا؟»
وسمع الجواب «نعم يا مولاتي».
فاقشعر بدن بلال عند سماعه ذلك الصوت وقد أدرك لأول وهلة أنه صوت قطام وخصوصا لما سمعها تخاطب ريحان بما يمازجه خوف. وتحقق للحال أنها آتية فرارا من سجن الفسطاط.
الفصل السادس والمائة
النزول
وكانت قطام لما أرسلت إلى سجنها قد حقدت على لبابة كما قد علمت. ونظرا لما فطرت عليه من اللؤم والقساوة لم يكن أهون عليها من قتل لبابة ولم تعبأ بما كان لها في خدمتها من تعب. وكان ريحان يومئذ واقفا في دار الإمارة فلما رأى سيدته ولبابة سائرتين مخفورتين علم أنهما في ضيق فراعى القوم ببصره حتى عرف الحجرة التي حبسوهما فيها. وعمل فكرته لإنقاذهما. وكانوا عند أول وصولهم الفسطاط قد نزلوا في دار الإمارة فاحتال في إخراج الجمال والأمتعة إلى مكان خارج الفسطاط. ولما توسط الليل غافل الناس وجاء إلى سجن قطام وقد تهيأ لمعالجة الباب. فسمع لغطا فإذا هو خصام احتدم بينها وبين خادمتها. فاستعجل في فتح الباب بالعنف ودخل فلما رأته قطام أشارت إليه أن يساعدها على قتل لبابة فصاحت هذه «تبا لك يا ظالمة يا فاجرة إني أتوب إلى الله عما ارتكبت في سبيلك من الذنوب. وأما أنت فلا نجاك الله من عواقب آثامك و....» فابتدرها ريحان حالا فسد فاها وخنقها وخرج بسيدته من باب كان قد عرفه واسترضى بوابه. فلما بعد عن الفسطاط تحول بها إلى مأمن كان قد أعده عند موقف الجمال. فركبا وهي تثني على شهامته. فخيرها في الجهة التي تسير فيها فاختارت دمشق لأن فيها أناسا من أهلها قد هجروا الكوفة بعد واقعة النهروان وفشل الخوارج وأقاموا في دمشق.
فسارا حتى أتيا الغوطة في تلك الليلة بعد وصول رسول عبدالله ببضع ساعات كما قد رأيت. وكان بلال لما تأكد أنهما قطام وريحان لم يعد يعلم كيف يفرح.
صفحه نامشخص