مردی که نمی‌توان حرکت داد

هیتایروس d. 1450 AH
19

مردی که نمی‌توان حرکت داد

الرجل الذي لا يمكن تحريكه

ژانرها

ما كان يعبأ بكلامي، بل كان يركلني على وجهي، يدفعني عنه بعيدا حتى يتيح لنفسه متسعا يمكنه من توجيه ضربات إلي، يفعل ذلك وهو يقول: يا لقيطة، تتأخرين (يوجه حزامه إلي بقوة)، تتأخرين وأنا أنادي عليك.

ثم يضربني مرارا بحزامه وهو يصرخ: يا لقيطة، متى ستتعلمين الإصغاء؟ (يضرب مرارا دون توقف.)

وكنت أتحرك هربا في كل مكان على تلك الأرضية، وأنا أصرخ مطالبة منه أن يرأف بي، أن يرحمني من طغيانه، أن يسامحني على خطأ لم أرتكبه، أن يسامحني لأنني ولدت ببيته، أن يسامحني لأنه يشعر أنني ثقل على كاهله، أن يسامحني لأنني لم أكبر بسرعة لأتزوج، أو لأنني لم أكبر بسرعة خارقة للعادة كي أموت، والأهم أن يسامحني لأنني لم أولد صبيا كمحمد، بيد أنني لم أتأخر يوما على ندائه، ولكنه كان يفعل ذلك فقط ليظهر لي مدى جبروته، مدى قوته، وفي غالب الأحيان كنت أعتقد أنه يعذبني تعبيرا منه عن حبه لوالدتي التي تكرهني، فيذكر حبه لها بضربي كل يوم، كان والدي رومانسيا وكان ضربي هو الرومانسية الوحيدة التي يعرفها، كان يضربني وأنا على الأرض أراقب والدتي تقف عند الباب تشجعه على ذلك، كانت تزداد حبا له عندما يفعل ذلك، ترى في ضرباته الرجولة التي لم يريها لها في أي مناسبة أخرى، وكنت أبكي، ليس لأنني أضرب، بل لأن والدي يتشاركان الحب عبر ضربي، وكأن ضربي هو الجنس الخاص بهما، كنت أبكي فرحا، وقد كانت تلك اللحظات الوحيدة التي أشعر فيها أنه لدي والدان يحبان بعضهما، على خلاف ما تبقى من الأوقات، وتذكرت أثناء تلقي تلك الضربات ما أخبرتني به والدتي، أخبرتني يوما أن محمدا كان نتاج حب تشاركته مع والدي، وأن بقية إخوتي كانوا نتاج شهوة رجل متزوج بها، ولما كنت أسألها عني، كانت تجيب وهي تدير رأسها إلى أختي الصغيرة تمشط شعرها: أنت ... أنت نتاج كره جمعنا، ولا تسأليني مرة أخرى (تمشط شعر أختي)، تحركي إلى جدتك أخبريها أنني قادمة (من دون أن تلتفت إلي)، وكنت أصرخ بينما هو يضربني: يا سيدي، يا سيدي (أقبل رجليه)، المغفرة، المغفرة يا سيدي، حتى إنني ولشدة الألم الناتج عن تلك الضربات المتتالية على ظهري كنت أظهر له المودة والحب وأنا أقول: يا والدي، يا سيدي أنا أحبك (يضرب بكل قوة)، يا سيدي الرأفة، بابا أنا أحبك، اغفر لي بابا. (أصرخ): بابا.

وكان ينتهي من ضربي ليتجه فيجلس إلى ركن ما، كان ينهكه ضربي، وهو يقول: أطعمك وألبسك، حقيرة أنت، أتفعلين بي هذا، تفعلين بي ما لا يفعله الحيوان، يا لقيطة أتعتقدين أن أحدا سيطعمك غيري، أو يهتم بك (يتنفس بصعوبة جراء التعب)، أو ... ابنة الزانية، ما كنت أجيبه بل كنت أجلس عند رجليه أقبلهما، وأنا أطلب منه الغفران، أتضرع إليه، أملا في أن يسامحني على خطئي، الخطأ الوحيد الذي ارتكبته، وهو أنني ولدت بهذه الحياة، أنني ولدت كابنة له، وكنت أنظر إليه في خوف ورهبة، وأنا متمسكة بعباءته البيضاء، كان ينظر إلي بعين حاقدة، كانت تلتهب عيناه غيظا وكان يطفئ نار ذلك الغيظ ببعض الاستغفار، ثم يقول لي وهو يرجع حزامه حول جسمه : توقفي عن تقبيل قدمي (يشير إلى مكان الكنس)، واكنسي الدكان فقد ملأه الغبار.

لم يكن يسمح لي حتى بنسيان تلك الضربات، وكنت أخشى تحسس موضعها، فيعيد ضربي، أو رؤية إن كانت تلك الأماكن من جسدي تنزف، وليس لأنني أهتم بنزيف جسدي بل كنت أخشى أن يلطخ الدم لباسي فأعود إلى المنزل فتمسكني والدتي بحزام آخر، تخرج غضب السنوات التي جمعتها بوالدي على جسمي الهزيل المليء بالكدمات. - أفسدت ثوبك (تصرخ وهي تجهز الحزام). - والدي هو من فعل ذلك (أنكمش في إحدى زوايا المنزل وأرفع يدي لأحمي رأسي)، أرجوك لا تضربيني. - يا حقيرة ما دمت أنا من ينظف ثوبك فلا يجدر بك أن تنزفي (تصرخ)، تعالي هنا يا حقيرة.

وكنت أسارع إلى كنس الدكان بأكمله، أرتب لوالدي كل شيء، بينما كان هو يكتفي باللعب مع شقيقتي الصغيرة، ربما كان ذلك هو الوقت الوحيد الذي كنت أكتشف فيه أن والدي شخص حنون، كنت أحب أن أراقبه وهو يلاعب أختي، أبتسم، أكنس الدكان بمزيد من الحب، وكنت عبر أختي أشعر بحب والدي وهو يقبلها، أشعر أنه يقبلني أنا، وكانت تلك لحظتي، كنت أشاركها الحب، مثلما كانت تشاركني حياتي وأنا أحملها، كانت حجتي الوحيدة أن والدي كان يحبني، على الأقل لما كنت بعمرها، أحببت والدي كثيرا لدرجة أنني بكيت لأسبوع يوم وفاته، بعد سنوات عديدة من آخر ضربة أخذتها، أحببت والدي، حتى أنني بقيت بالقرب من قبره أقص عليه ما يحدث معي، بينما سارع إخوتي ووالدتهم إلى تقاسم كل ما تركه. أذكر أنني طلبت منهم أن يمنحوني عباءته البيضاء التي كنت أتمسك بها في صغري حينما كان يضربني، وأذكر أنني تمسكت بذراعه وهو على فراش الموت لما كنت في الأربعين، كنت بابنة وحيدة أجهل مكانها في هذا العالم، ابنة حرمني منها هذا الوالد الذي يتوجه إلى مكان آخر، مكان ليتعلم الحب فيه، كان قد طلب من الجميع المغادرة في آخر ليلة له، أخبرهم أنه يود أن يموت بن يدي، أن نبقى وحدنا في آخر لحظاته ، لم يتأسف على ما فعل بي حينما باشر الكلام، كان قد نسي ذلك، لم ينبس ببنت شفة، وكنت أخبره أنني كنت أحبه مهما فعل، أنني أحببت طبيعته، كان يخرج الكلمات بصعوبة، صعوبة تحملي لتلك الضربات، وأخبرني أنه رضي عني طوال حياته، وأنني كنت فتاته المفضلة دوما، أخبرني أيضا أنني سأعيش سعيدة، وأكثر من قوله: اغفري لي، يابنتي، شريفة.

كان يبكي، إلا أن الموت لم يسمح له بإظهار ذلك، حتى إنه كان يقتل فيه كل شيء، لم ينس الموت سوى دموع فرت منه، ووالدي يقول وتتباطأ كلماته: «اغفري ابنتي ... اغف... (يفتح عينيه وكأن الكلمات تحاول اختراقهما) اغفري، شريفة، شري... (يصدر صوت اختناق يليه سكون رهيب وتوقف عن الكلام بمجرد ملامسة الدموع ليدي التي كانت تسند وجهه.)»

لم ألم والدي يوما على شيء، حتى والدتي التي كانت تمقتني بقدر الكره الذي يكنه والدي للفرنسيين، حتى هي توفيت بمنزلي وحيدة، كان قد تخلى عنها بقية إخوتي، إخوتي الذين حرصت هي بشدة على أن يدرسوا، فقد اعتقدت أنهم سيردون إحسانها بإحسان مضاعف، لكن المدرسة الفرنسية علمتهم كل شيء، إلا حب والدتي، ولم يكن العلم سوى حجة أخرى لينفروا منها، وتوفيت بين يدي وهي تخبرني كم كرهت والدي وأنها ما كانت تحب أن يضربني، لقد ماتت وهي تكره والدي، ماتت ميتة غريبة، ماتت وهي تغتاب والدي عند ابنته المفضلة. ما عشت بسلام في ذلك المنزل أين كبرنا جميعا، ولم أكتشف يوما معنى المحبة إلا بعد بلوغي السابعة عشرة، حينما أحبني صبي يكبرني بسنتين، وأحببته فقط لأنه كان يذكرني بأخي محمد، أخي الذي فقدناه في حصص التعذيب، بعدما أمسكه الفرنسيون بمكان ما ينقل رسائل الثوار، كان يحن إلي مثله، وقد قيل لي يوما إن الفتاة تحب شخصا يشبه والدها، لكنني لم أفعل، فقد أحببت صبيا يشبه أخي، وقد أحبني هو بدوره لشيء ما، لا زلت أجهله ليومنا هذا.

وقد كلل حبنا هذا بزواج غريب، لم أكن أطمع يوما في ذلك، لم أعتقد ولو للحظة أن هذا الحب الذي جمعني بزوجي سيقضي على تلك المحاقد، وفجأة تحول والدي إلى محب، واهتمت والدتي بشئوني، كنت أول ابنة لها تتزوج، ولأول مرة منذ سبع عشرة سنة مضت، اهتم الجميع بي، كانت تزورني مرة في أسبوع، تحمل إلي ما تنوع من الطيبات، وكان والدي يحن على زوجي فيجلسه بقربه، ويحدثه في أمور القرية، لم يكن زوجي حبيبي من عائلة ثرية وما كان نسبه ليطغى على نسبي، لقد كان مجرد عامل، وقد أحبه والدي لذلك، كان يقفز هنا وهناك ليحمل لي سعادة يصنعها بيديه، كان يضحكني على الدوام، حتى حينما أراه في أحلامي، وكنت أسأله دوما لم تحبني، كان يخجل من سؤالي، يخفض رأسه، ويقول لي بأنه لا يعرف الإجابة عن السؤال، كان يكذب، وكنت أعلم أنه كان يخشى أن تكون إجابته غير مقنعة أو أن تكون حجته ضعيفة، أن يخبرني بأنه يحب عيوني البنية، فأرفض حبه، أو أن يخبرني أنه يحب لون شعري الأسود، فأنكر مودته تلك، كان يخشى أن يكون ما يقوله غير كاف لي، لكنه كان يجهل أنني كنت سأكتفي لو هو قال أنه يحبني فقط، وقد أمضيت إلى جانبه أجمل أيام حياتي، ولأول مرة بدا أن الأمور ستسري على ما يرام، كان الجنة التي أخرج منها آدم، جنتي الخاصة، جنة لا تبالي بأحد سواي، وكان لما يعود إلى بيتنا المتواضع يحكي لي عن أصدقائه من اختاروا حياة السلاح، كنت أخبره أنني سأنتظره إن هو ذهب يوما واختار تلك الحياة، وأنني لن أكون عائقا إن هو أراد المجد في يوم من الأيام، أنه سيكون بطلي مهما حدث. كنت أعلم كيفية تفكير الرجال، ورجال العرب يتمسكون بشهامتهم دوما، ومهما عاشوا، فإنهم لا يرضون سوى بالمجد، كان أهم ما يهم رجال قريتنا، كباقي القرى العربية، هو تشريف أسماء العائلات التي ينحدرون منها، لكن زوجي الحبيب كان يرفض ذلك، كان يرفض كل شيء، كان يقترب مني، يتنفس في وجهي بحب، وكنت استنشق زفيره في حب، يضع يده على بطني المنتفخ ويقول لي في هدوء: هم يحاربون من أجل وطنهم، ولن أحارب أحدا ما دام لم يسلبك مني، أنت الوطن الوحيد الذي أهتم له.

وما كان بمقدوري أن أساير كلماته، كنت فقط أعانقه وأنا أقول باكية: أخشى أن تتركني في يوم من الأيام.

صفحه نامشخص