أن أجده فعل مخالف تماما لما أراده والدي، ولن أبحث عن والدي إن هو أرادني ألا أفعل ذلك، ولم يكن لي متسع بعقلي لحشوه بكل هذا الاهتمام بما حدث أو حتى بما سيحدث مع والدي، ربما لأنه ترسب بعقلي أنني لا أملك متسعا من الوقت لترجمة ذلك الفضول والاهتمام إلى رحلة بحث ستأخذ كثيرا من الوقت، ثم إنني انشغلت بمحاربة القدر أكثر من اهتمامي بإيجاد الرجل الذي اختار ألا يجده الآخرون، وكنت أتذكره فقط في مناسبات متفرقة، وكانت إحداها حينما أرادت ابنتي أن تعرف أكثر عن جدها، أكثر قليلا من فكرة أنه أنجبني، أذكر أنها الفكرة الوحيدة التي حصلت عليها عن جدها قبل أن تسأل مرة أخرى، كنت وبسذاجة مني اختصرت وجود الجد في كونه أنجبني، ثم سألتني مرة أخرى، لا أنكر أنني أصبت ببعض من الذهول يومها، لا أنكر كذلك أنني ارتجفت، سرت بجسدي رعشة خوف، لأن ما حدث مع ابنتي كان قد حدث معي سابقا مع والدتي، حينما سألتها عن دي لا بوت، تمالكت نفسي، وفكرت أنه لا طائل من التفكير في كل شيء بخصوص ما حدث أو حتى بخصوص ما سيحدث بعد هذا، لذا أجبتها: ماذا تودين معرفته بالتحديد بخصوص جدك؟ (كانت تلك نفس الإجابة التي حصلت عليها من والدتي.) - ربما البعض من كل شيء.
ثم فكرت، الزمن يعيد نسج نفسه ببطء، ارتعشت مرة أخرى؛ أيمكن أن يحدث ذلك، أم هو مجرد صدفة غريبة؟ ثم خفت أن يحدث ذلك مع ابنتي، وأرهقني التفكير فيما إن كان هناك علاقة خفية بين ما حدث قبل أربعين سنة وما حدث مع ابنتي، لكنني اكتشفت بعد زمن، أن ذلك كان مجرد مصادفة ليس لها معنى سوى أنها حدثت في صورة مخيفة. - حسنا، أول ما يجب أن تعلميه بخصوص شخص جدك، أنه كان أرستقراطيا فرنسيا، أحد الذين أحسنوا استغلال الفرص، وكان جدك جيدا في التعامل مع الفرص، الجزائر كانت فرصة أخرى أحسن استغلالها، عشنا بفرنسا لكنه اعتاد دوما على زيارة الجزائر، حتى إنه كان يدفعني إلى مرافقته في كل مرة يأتي إلى هنا، وإحدى ثمار تلك الفرصة، هو أنه امتلك الكثير من الأراضي بالجزائر، وأحسن التعامل مع كل تلك الممتلكات، حتى إنه كان محبوبا في كل تلك المزارع المنتشرة في حدود المدينة، وأحبه رجال العروش الذين شاركوه تسيير تلك المزارع، كان بدوره يبادلهم ذلك الحب، ربما بادلهم الاحترام والاهتمام، أخبرني في كثير من المرات أنه يجب على السيد المحترم أن يحسن معاملة هؤلاء الرجال، إن هو أراد أن يحافظ على ما يملك من أراضيهم، أخبرني كذلك أن أولئك الرجال يملكون هذه الأرض وسيخلدون على هذه الحال، حتى وإن تسيدنا عليهم، ففي الأخير نحن خلقنا بفرنسا وهم خلقوا هنا، وأهم ما جهد والدي في بنائه، لم يكن المزارع ولا تلك الممتلكات، امتلك والدي شيئا أقوى من كل تلك الأشياء، امتلك ثقة شيوخ العروش والقرى، وكانت تلك الثقة كنزه الخاص الذي يخلق ما تبقى من كنوز والدي، أذكر أننا اعتدنا المكوث في مسكن أحد الشيوخ كان قد اختاره والدي كرفيق له وفي كثير من المرات كنا نسكن منزلا إسبانيا امتلكه والدي ووالده قبله، ولا زلت إلى يومنا هذا أذكر كل زاوية، كل منعطف، كل رابية من تلك القرية التي تحتاط بها أراضي والدي، أحببت تلك القرية لسبب ما، سابقا بالتأكيد فقد توقفت عن زيارتها بعد اختفاء والدي، سبب فقدته قبل زمن، واعتاد جدك على طبيعة العرب، وأخذ عنهم بعضا من طباعهم، يستيقظ في نفس الوقت لمراقبة تلك الأراضي والتعامل معها مثلما يفعل العرب، كان يشاركهم الأعمال كذلك، وفعل ذلك ربما لأنه كان واحدا منهم، أكثر من كونه أحد أولئك الأرستقراطيين الفرنسيين، كان والدي عربيا في الصميم وقد أحب هذه الأرض أكبر من حبه لأي أرض أخرى، كانت الجزائر المكان الوحيد الذي يجد فيه ضالته من الإنسانية والبساطة، اعتاد القول كذلك.
الرجل الذي لا يتساقط عرقه من أجل أملاكه هو رجل لا يملك شيئا، ثم دفعني في كل تلك العطل التي قضيتها في الجزائر إلى العمل، يعلمني شدة وقوة العرب، بساطة عيشهم، تلاحمهم المقدس. وكانت كل دقيقة في تلك القرية أشبه بدرس أتلقاه، كنت المتعلم الوحيد فيها، وكان البقية جمع المعلمين الذي يرشدني، وكنت أختلف إلى كل مكان هناك، وعرفني جميع العرب، كان والدي يحرص على أن أرافقه في كل ما يفعل، حتى إنني كنت أجلس إلى جانبه حينما يجتمع برجال من القرية، أذكر ذلك وكأنه حدث بالأمس، حينما اقترب أحد الرجال من والدي، كان قد طلب والدي رحالة ليتجه إلى الأراضي الجنوبية ليكتشفها في الشتاء، وقد أحضر له العرب رجلا عرف القارة كمعرفته لابنه الذي جلبه معه، كان والدي يقف إلى جانب العربي ، وكنت أراقب الشاب، كان يراقبني بدوره، لم ينبس أحدنا ببنت شفة، اكتفينا بالمراقبة، مراقبة بعضنا البعض، وقد علمت من والدي أن اسمه محمد، طلب منهما والدي المبيت بالقرية لليلة أخرى، فإنه لا يجب أن يغادرا حالا، أذكر أنني أمضيت تلك الليلة قرب الشاب محمد، أحاط به رفاقي من العرب يجلسون معنا، نسمع قصص تجوله مع والده.
وقطعت صوفي سلسلة أفكاري حينما وخزتني بيدها، لم يعجبها عدم اهتمامي بما حدث، كيف لشيء ما أن يجعلني (شارد العقل) أفكر؟ كان يجب أن أكلمها على الأقل، أن أسألها عما تشعر به - كان ذلك منطقها.
ولم أعتقد أن سؤالا سيعيد العجوز إلى هذه الحياة، لذا ما كان يجدر بي أن أفعل شيئا سوى أن أفكر في شيء من الماضي، التفتت إلي دامعة وقالت لي بصوت سمعه الجميع: تبا لك، متى ستصبح إنسانا؟ (لم أجبها.)
لا شيء، تبا لك (سرعان ما عادت إلى مراقبة الطريق).
ضحكت رغم أنني لم أظهر ذلك، فكيف لفتاة في الثامنة عشرة أن تعرف معنى الإنسان، أو حتى أن تحكم علي، أو تتهم إنسانيتي فقط لأنني لا أشاركها حزنها، أو لأنني لا أبكي؟ فأخبرتها أنني إنسان، وأنني بعد ذلك أكون والدها، ولا يجدر بها أن تعاملني بحقارة، وأنها يجب أن تحترم طبيعتي. أذكر أنني أخبرتها أنها محظوظة، لأن لها والدا لا يضربها، لكنها فاجأتني حينما أخبرتني أنها تتمنى أن أموت وأن يكون لها والد يضربها، وأن يهتم بها بعد ذلك، ثم أخرجت مدونة زرقاء كانت تكتب فيها ما كان يجول برأسها، وقالت لي وهي تقدم لي تلك المدونة: أتمنى أن تتعلم كيفية الاهتمام بالآخرين، لأنك إن لم تفعل فستخسرني عما قريب.
وفكرت للحظة فيما قالته ابنتي وانتهيت إلى استنباط منطقي؛ ابنتي ستتركني يوما ما، سواء اهتممت أو لم أفعل، سيأتي يوم أتحول فيه إلى آخر اهتماماتها؛ لذا ليس من المفيد أن أفكر بتهديدها لي، هي لن تتركني الآن فأنا لم أخطئ في شيء، ثم إنها مرغمة على البقاء إلى جانبي، كانت ابنتي قد نامت إلى جانبي، وأنا أمسك بتلك المدونة، أراقبها من دون سبب، استدرت إلى ابنتي ولأول مرة أحسست أنني أجهلها، وقد قلت لها إنني أحبها - بصوت يكاد يسمع - أعتقد أنني أتشجع حينما تنام، بالتأكيد هي لم تسمعني، راقبتها لمدة وأنا أتمسك بمدونتها الزرقاء، ثم التفت إلى المدونة، وفتحتها وقد كتب بأول صفحة فيها: «جليستي امرأة من حديد.»
كان الخط رديئا، مجرد خربشات هنا وهناك، وقد أرفق النص ببعض الرسومات الصبيانية، رسومات وخربشات مراهقة في كل مكان، التفتت إلي ابنتي، كانت قد فتحت عينيها بعد مرورنا على مطب زلزل الباص، سألتها عن المدونة، أخبرتني أنني يجب أن أقرأها، وحاولت إقناعي بأن عدد الصفحات صغير، وأنه سيكفيني الوقت الذي سنقضيه في الحافلة لإنهاء قراءتها، وقد قالت لي: ستنتهي قبل وصولنا إلى المحطة.
ابتسمت لها، نظرت إلى السائق، كان يكثر الحديث إلى أحد الركاب، وفكرت هو لا يركز على الطريق، لذا من المؤكد أننا سنتأخر، إذا وصلنا على قيد الحياة، لذا يبدو أنني إذا أضعت بعضا من الوقت لقراءة ما يجول برأس هذه الصغيرة، فلن أشعر بالرحلة، وسأكتشف على الأقل طريقة تفكيرها، وشرعت في القراءة، تبا، كم كان الخط رديئا!
صفحه نامشخص