رحمان و شیطان
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
ژانرها
تجلى له على الضفة كائن نوراني، فخاف لرؤيته وهم بالرجوع، ولكن الكائن كلمه وطمأنه قائلا بأنه فوهو مانا، أحد الكائنات الروحانية الستة التي تحيط بالإله الواحد أهورا مزدا وتعكس مجده، ثم أخذ الملاك بيد زرادشت وعرج به إلى السماء حيث مثل في حضرة أهورا مزدا والكائنات الروحانية المدعوة بالأميشا سبينتا ، وهناك تلقى من الله الرسالة التي يتوجب عليه إبلاغها لقومه ولبني البشر جميعهم.
بعد تلقيه الرسالة، انطلق زرادشت يبشر بها في موطنه وبين قومه مدة عشر سنوات، ولكنه لم يستطع استمالة الكثيرين إلى الدين الجديد، فلقد وقف منه الناس العاديون موقف الشك والريبة بسبب ادعائه النبوة وتلقي وحي السماء، بينما اتخذ منه النبلاء موقفا معاديا بسبب تهديده لهم بعذاب الآخرة، ووعده للبسطاء بإمكانية حصولهم على الخلود الذي كان وقفا على النخبة في المعتقد التقليدي. ولما يئس النبي من قومه وعشيرته عزم على الهجرة من موطنه، فتوجه إلى مملكة خوارزم القريبة حيث أحسن ملكها فيستاشبا استقباله، ثم اعتنق هو وزوجته الزرادشتية وعمل على نشرها في بلاده، ولكن ملوك المناطق المجاورة طالبوا فيستاشبا بنبذ الزرادشتية والرجوع إلى دينهم التليد، وانتهزوا الفرصة للإغارة على حدود بلاده، فدخل معهم في حروب طاحنة خرج منها منتصرا، وبذلك تم فتح الطريق أمام الزرادشتية للانتشار التدريجي.
عاش زرادشت عمرا مديدا، ووجد الوقت الكافي لنشر رسالته والعمل على تبسيط تعاليمه الأولى التي أوردها في الأناشيد، وذلك بلغة تقربها إلى عامة الناس وتستميلهم إليها. تزوج ثلاث مرات وأنجب ثلاثة ذكور وثلاث بنات، وكانت ثالث زيجاته من ابنة الوزير الأول لمملكة خوارزم. بعد وفاة الملك فيستاشبا سادت الفوضى في المملكة وفقد زرادشت سنده وحاميه، فكان عليه أن يكافح ويصمد بقواه الخاصة، وهي مهمة حققها بنجاح بعد نضال شاق وطويل. إلى هذه الفترة العصيبة يرجع قانون العقيدة الزرادشتي الذي يتوجب على المؤمن فهمه وإعلانه لدى دخوله في الدين الجديد، وفي مقدمته الشهادة التي تقول: «أشهد أني عابد للإله أهورا مزدا، مؤمن بزرادشت، كافر بالشيطان، معتنق للعقيدة الزرادشتية، أمجد الإميشا سبينتا الستة، وأعزو لأهورا مزدا كل ما هو خير.» لدى نطقه بهذه الشهادة يكون الفرد قد انسلخ عن الدين القديم وصار عضوا في جماعة المؤمنين.
ذاعت شهرة زرادشت في العالم القديم فاعتبره الإغريق سيدا للحكمة والمعارف السرانية، وعزا إليه الفيثاغوريون تأثيرا مباشرا على معلمهم فيثاغورث، ونظر إليه فلاسفة الأكاديميا بإكبار وإجلال باعتباره مؤسسا لفلسفة الثنوية، ثم رأت فيه المسيحية المبكرة مبشرا بقدوم السيد المسيح بسبب تعاليمه حول المخلص المنتظر الذي سيأتي في آخر الأزمان، ولم تكن النجمة التي ظهرت في الشرق وقادت المجوس الثلاثة إلى مهد يسوع في بيت لحم، إلا إشارة إلى تحقيق نبوءة زرادشت (انظر إنجيل متى، الإصحاح الثاني). وعندما ظهرت المدارس الغنوصية في سورية ومصر خلال القرون الأولى للميلاد، وجدت في زرادشت واحدا من معلميها الكبار، ثم جاء ماني المعلم الثاني لمعتقد الثنوية، فاعتبر زرادشت ثالث الأنبياء العظام الذين سبقوه إضافة إلى موسى ويسوع. وفي العصور الحديثة أصبح زرادشت موضع اهتمام الأوروبيين منذ عصر النهضة، وكان الفيلسوف الألماني نيتشه من أكثر الفلاسفة المحدثين إعجابا به، واستعار اسمه لحكيم كتابه: هكذا تكلم زرادشت. (3) المعتقد الزرادشتي
يتميز المعتقد الزرادشتي بابتكاره لمفهوم الوحدانية الثنوية، وصفة الثنوية هنا لا تلغي صفة الوحدانية، لأن مفهوم الثنوية الزرادشتي يقف في تعارض مع مفهوم التعددية، ولكنه لا يتعارض مع الوحدانية بل يتلازم معها، ذلك أنه يقدم أكثر التفسيرات منطقية لوجود الشر في العالم. أهورا مزدا واحد ولا ثاني له في الألوهة، خالق كل ما هو طيب وحسن، ولكنه ليس مسئولا عن وجود الشر في العالم، ولم يكن ليرتضي وجوده منذ البداية، بل لقد سعى إلى مكافحته بكل السبل والوسائل، ولسوف ينتصر عليه في معركة تمتد على مدى تاريخ الكون والإنسان، وستشهد نهاية هذا التاريخ غلبة جند الحق على جند البهتان واختفاء الشيطان وأعماله إلى الأبد. (3-1) خلق العالم الروحاني
في البدء، لم يكن سوى الله، أهورا مزدا، وجود كامل وتام وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها، ولكن هذه الألوهة اختارت أن تخرج من كمونها وتظهر ما عداها إلى الوجود، فكان أول خلقها روحين توءمين هما سبينتا ماينو وأنجرا ماينو، ولكي يكون لهذين الروحين وجود حقيقي مستقل عن خالقهما، فقد منحهما الله خصيصة الحرية التي استخدماها منذ صدورهما عنه، فاختار سبيتنا ماينو الخير ودعي بالروح القدس، واختار أنجرا ماينو الشر ودعي بالروح الخبيث، ثم راح يتحفز للانقضاض على خلق الله القادم ويقاوم كل عمل حسن له.
هذا الخيار البدئي كان بمثابة النموذج الأسبق لكل خيار أخلاقي لاحق يقوم به الإنسان، دونما جبرية أو قدرية من أي نوع، لأن الإنسان سوف يخلق حرا أيضا، والحرية ستقوده إلى الاختيار، والاختيار هو جوهر الأخلاق، وبذلك يقوم المعتقد الزرادشتي على ثلاثة عناصر رئيسية هي: الحرية والاختيار والمسئولية الأخلاقية. إن صيرورة الوجود بكامله سوف تعتمد على كيفية استخدام الذوات الواعية من أهل السماء والأرض لهذه المعطيات. يقول زرادشت في أحد أناشيد الغاثا: «الحق أقول لكم، إن هناك توءمين يتنافسان منذ البداية، اثنان مختلفان في الفكر وفي العمل: روح خبيث اختار البهتان وثابر على فعل الشر، وروح طيب اختار الحق وثابر على فعل الخير ومرضاة أهورا مزدا. وعندما تجابه الاثنان لأول مرة أبدعا الحياة ونقيضها، ولكن عندما تحين النهاية فإن من اتبع البهتان سوف يرد إلى أسوأ مقام، ومن اتبع الحق فسوف يرد إلى أسمى مقام.»
بعد الخيار الأخلاقي للتوءمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع مفتوح. ورغم أن الله كان قادرا منذ البداية على سحق أنجرا ماينو ومحو الشر في مهده، إلا أنه قرر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره وأقام عليه خليقته، وآثر السير بخطته التي تقوم على مقاومة الشر استنادا إلى المبدأ ذاته الذي أنتج الشر وهو الحرية. وهنا عمد بمعونة الروح القدس سبينتا ماينو إلى إظهار ستة كائنات نورانية قدسية إلى الوجود، شكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام، ويدعون بالأميشا سبينتا، أي الخالدون المقدسون، وقد أوجدهم الله من روحه كمن يشعل الشموع من مشعل متقد، على حد تعبير أحد مقاطع الأفيستا، وتدل أسماؤهم على أنهم ليسوا إلا خصائص مجسدة للإله، فهم: فوهو مانا الفكر الحسن، وآشا فاهيستا الحقيقة الناصعة، وكشاترا فايرا الملكوت القادم، وسبينتا أرمايتي الإخلاص، وهورفات الكمال، وإيرميتي الخلود . وقد شارك هؤلاء الخالق فيما تلا من أعمال الخلق والتكوين، وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين الناس وجميع مظاهر الوجود، ثم إن الأميشا سبينتا خلقوا عددا من الكائنات القدسية الطيبة تدعى بالأهورا، فعهد إليهم أهورا مزدا بمهامهم وأوكلهم بمكافحة الشر كل في مجاله. وبالمقابل فإن إنجرا ماينو قد استنهض عددا من الكائنات المتفوقة تدعى بالديفا وعمد إلى ضلالتهم فانحازوا إلى جانبه وراحوا يتهيئون للانقضاض على كل عمل طيب يصدر عن الله، وبذلك تم تكوين عالم الملائكة وعالم الشياطين قبل أن يظهر العالم المادي.
فوق الروحين المتنافسين وفوق فريق الديفا والأهورا،
2
صفحه نامشخص