87

فنظر إليها بغرابة وقال: أتشيرين علي بالخضوع يا رادوبيس؟

فضمته إلى صدرها وقد آلمتها لهجته، ثم قالت وقد فاضت عيناها بدمع سخين: أحرى بمن يتحفز للوثبة الكبرى أن ينكمش أقداما، والنصر رهين بالنهاية.

فتأوه الملك قائلا: آه يا رادوبيس! .. إذا كنت أنت تتجاهلين نفسي، فمن ذا الذي يمكن أن يعرفها؟ أنا من إذا نزل مرغما على إرادة إنسان ذبل كمدا كوردة سفتها الرياح.

فبدا التأثر في عينيها السوداوين، وقالت في حزن عميق: فداؤك نفسي يا حبيبي لن تذبل قط وصدري يرويك حبا صافيا. - سأعيش منتصرا في كل لحظة في حياتي، ولن أمكن خنوم حتب من أن يقول يوما إنه أذلني ساعة!

فابتسمت إليه ابتسامة حزينة وتساءلت: أتريد أن تسوس شعبا بغير التجاء إلى الحيلة أحيانا؟ - التسليم حيلة العاجز، سأظل ما حييت مستقيما كالسيف تتحطم على أسنانه قوى الخائنين.

فتنهدت حزينة آسفة ولم تحاول معاودته، ورضيت بالهزيمة أمام غضبه وكبريائه، ومنذ تلك اللحظة وهي تتساءل جزعة: متى يعود الرسول؟ .. متى يعود الرسول؟ .. متى يعود الرسول؟

ما أشق الانتظار! .. لو يعلم المتمنون ما عذاب الانتظار لآثروا الزهد في الدنيا .. كم عدت الدقائق والساعات وترقبت شروق الشمس وانتظرت مغيبها، وذابت عيناها من طول النظر إلى مجرى النيل الآتي من الجنوب. وكم حسبت الزمن بتردد أنفاسها وخفقان قلبها، وكم صاحت وقد نال منها القلق كل منال: أين أنت يا بنامون؟! حتى الحب نفسه ذاقته ذوق الشارد الحالم، فلا طمأنينة ولا سلام حتى يعود الرسول برسالته!

وتقضت الأيام تجر ثقلها جرا بطيئا، حتى كان يوم تجلس فيه مستغرقة في أفكارها، وإذا بشيث تدخل عليها مهرولة، فرفعت رأسها وسألتها: ما وراءك يا شيث؟

فقالت الجارية بلهفة تلهث: مولاتي، جاء بنامون.

وغمرها الفرح، فانتفضت واقفة كطير فزع وهي تصيح: بنامون!

صفحه نامشخص