77

فقال بنامون، وكان يتيه في غمراه الذهول: مولاتي، أقسم لقد شهدني الليل وأنا ذوب عذاب، وهاك الصبح يلقاني نسمة من سعادة معطرة. لقد أخرجتني كلمة نطقت بها من الظلمات إلى النور، ونقلتني من دياجير اليأس إلى سحر السعادة. لقد أحببت نفسي بعد أن أشفيت على الفناء .. أنت سعادتي وحلمي وأملي.

وكانت تصغي إليه في صمت حزين، وقد شعرت بأنه يصلي صلاة حارة، وأنه يهيم في جهالة الأحلام الساذجة المقدسة، فوجمت وعاودها شيء من الألم والندم، ولكنها لم تستسلم طويلا لعواطفها التي أثارها في قلبها بهيامه فقالت في دهاء: إني أعجب كيف لم أعرف قلبي منذ أجل طويل، بل إني أعجب للمصادفات التي توفقني إلى سره إلا حين حاجتي إلى إرسالك إلى مهمة بعيدة؛ فكأنها دلتني عليك، وحرمتني منك في لحظة واحدة.

فقال الشاب بلهجة العبادة: سأفعل ما تريدين بروحي وقلبي.

فسألته بعد تردد: وإن كان ما أريد سفرا إلى بلد لا تبلغه إلا بشق الأنفس؟! - لن يشق علي منه إلا أني لا أراك كل صباح. - فليكن غيابا إلى حين. سأعطيك رسالة تودعها صدرك، وتذهب إلى حاكم الجزيرة بكلمة مني، فيدلك على الطريق، ويذلل لك الصعاب. وستسافر مع قافلة لا ينبغي لأحد منها أن يطلع على ما في صدرك حتى تبلغ حاكم النوبة، فتسلمها له يدا بيد، ثم تعود إلي.

وأحس بنامون بسعادة جديدة يمازجها شعور بالنخوة والخيلاء، وكانت يدها على كثب منه، فهوى بفمه عليها ولثمها بشوق ووجد، ورأته يرتجف بقوة حين لمست شفتاه يدها.

وفي طريق العودة عاودها إحساس حزين، حتى قالت لنفسها: أما كان أدنى إلى الرحمة أن أترك مولاي يختار رسوله، من أن أعبث بقلب هذا الشاب؟ على أنه كان سعيدا، أسعدته كلمة كاذبة، بل كان في حالة يحسد عليها السعداء حقا، وليس لها أن تحزن ما دام لا يعرف الحقيقة، حتى تيأس من لياذها بالكذب!

الرسالة

وفي مساء اليوم نفسه جاء فرعون يهز في يده رسالة مطوية، يشرق وجهه بنور السعادة، فحدجتها بنظرة غريبة وتساءلت: ترى هل يكتب لفكرتها بالنجاح والتوفيق، وتسير الأمور وفق أحلامها؟! وبسط الملك الرسالة، وقرأتها بعينين مبتهجتين، وكانت موجهة إلى الأمير كارفنرو حاكم النوبة من ابنه عمه فرعون مصر. وقد صارحه فيها بمتاعبه، وبرغبته في تعبئة جيش جرار دون أن يثير مخاوف الكهنة أو يوقظ حذرهم، وطلب إليه أن يبعث إلى مصر برسالة استغاثة مع رسول أمين ذي صفة رسمية، يطلب فيها نجدة سريعة للدفاع عن حدود الأملاك الجنوبية، ولقمع ثورة وهمية يزعم أن قبائل المعصايو أشعلت نيرانها، واجتاحت بها البلدان والقرى.

وطوتها رادوبيس مرة أخرى، ثم قالت: إن الرسول على أهبة الاستعداد.

فقال الملك مبتسما: والرسالة جاهزة.

صفحه نامشخص