ولحظ سوفخاتب صاحبه بنظرة ساخرة متشفية، وقال بهدوء: مصادفة؟ .. إن هذه الكلمة يا مولاي مهضومة الحق، يظن بها التخبط والعمى، ومع هذا فهي المرجع الوحيد لأغلب السعادات وأجل الكوارث؛ فلم يبق للآلهة إلا القليل النادر من حادثات المنطق، كلا يا مولاي، إن كل حادثة في هذا العالم لا شك موكلة بإرادة رب من الأرباب، ولا يجوز أن تخلق الآلهة الحادثات - جلت أو تفهت - عبثا أو لهوا.
فجن جنون طاهو، وكظم بقوة تيار غضب جنوني كاد أن يجرف هدوءه في حضرة الملك، وقال لسوفخاتب بلهجة تنم عن اللوم والتعنيف: أتريد أيها المعظم سوفخاتب أن تشغل بال مولاي، في هذه الساعة الجليلة، بأمثال هذه الأوهام؟
فقال سوفخاتب بهدوء: إن الحياة جد ولهو، كما إن اليوم نهار وليل، والرجل الحكيم من لا يذكر في أوقات جده أسباب لهوه، ولا يعكر صفو لهوه بأمور جده، فمن أدراك أيها القائد؟ فلعل الآلهة لسابق علمها بحب مولانا الجمال، أرسلت إليه هذا الصندل على يد النسر العجيب.
وقلب الملك عينيه في وجهيهما واستضحك قائلا: أدائما على اختلاف أيها الرجلان؟ كما تشاءان، ولكن كان ينبغي أن أجد في طاهو الرجل مغريا بالهوى، وفي سوفخاتب الشيخ زاجرا عنه، وعلى أية حال لا مندوحة لي من الميل مع رأي سوفخاتب في الحب، كما ملت إلى رأي طاهو في السياسة.
وقام الملك واقفا، فقام الرجلان، وألقى نظرة على الحديقة الواسعة وهي تودع الشمس المائلة نحو الأفق الغربي، وقال وهو يهم بالمسير: أمامنا ليلة عمل شاقة، فإلى الغد، ولسوف نرى.
وذهب فرعون والصندل في يده، فانحنى الرجلان في إجلال.
ووجدا نفسيهما منفردين مرة أخرى، فوقف كل منهما بإزاء صاحبه؛ طاهو بجسمه الطويل وصدره العريض وعضلاته الفولاذية، وسوفخاتب بجسمه الدقيق النحيل وعينيه الصافيتين العميقتين وابتسامته الجميلة العظيمة.
وكان كل منهما يحس بما اختلج في صدر صاحبه، فيبتسم سوفخاتب، ويقطب طاهو جبينه. ولم يستطع القائد أن يودع الحاجب بغير قول ينفس به عن صدره الكظيم، فقال: غدرت بي أيها الصديق سوفخاتب، بعد أن لم تطق منازلتي وجها لوجه.
فرفع سوفخاتب حاجبيه إنكارا، وقال: يا له من كلام بعيد عن الحق أيها القائد! ما لي أنا والحب؟ ألم تعلم بأني شيخ فان ، وأن حفيدي سنب طالب في جامعة أون؟ - ما أسهل تزوير الكلام عليك أيها الصديق! ولكن الحقيقة تهزأ بلسانك اللبق الحكيم .. ألم يمل قلبك الفتي يوما إلى رادوبيس؟ ألم يسؤك أن تهبني عطفا لم تظفر به أنت؟
فرفع الشيخ يديه يستعيد من كلام القائد، وقال: إن خيالك لا يقل عن عضلات ساعدك الأيمن، والحق أنه إذا كان قلبي مال إلى هذه الغانية يوما، فعلى طريقة الحكماء المبرأة من الطمع! - أما كان يجمل بك ألا تفتن خيال مولانا بحسنها إكراما لي؟
صفحه نامشخص