الرد على من أنكر رفع اليدين في الدعاء
صفحه ۳۵۱
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ذكرتم -نشر الله عليكم رحمته ويسر لديكم نعمته- أن منكرا أنكر رفع اليدين في الدعاء مستدلا بحديث الاستسقاء، وهو ما ثبت في ((الصحيحين)) من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لم يكن يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه)).
فهذا ليس فيه دليل لما فيه من التأويل.
قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي -وحسبك به علما وحفظا وإتقانا لمعاني الأحاديث لفظا لفظا- فقال في كتابه ((معارف السنن)) المشهور بعد أن روى حديث أنس المذكور:
صفحه ۳۵۷
((وإنما أراد -والله أعلم- كما يرفع في الاستسقاء فإنه روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء.
وفي رواية أخرى عن حماد قال: فقال: هكذا ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه)).
والعجب من المنكر كيف تمسك بهذا الحديث المؤول، ويترك الأحاديث التي عليها المعول؟
أم كيف ذهل عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ظهرت، وسارت في الأمة وانتشرت من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا رفع يديه، وبوب الأئمة في كتبهم عليه، فقال أبو عبد الله البخاري في ((صحيحه)).
باب رفع الأيدي في الدعاء
وقال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه.
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)).
وقال الأويسي: حدثني محمد بن جعفر عن يحيى بن سعيد وشريك أنهما سمعا أنسا -رضي الله عنه- يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أنه رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه)).
وما علقه البخاري عن أبي موسى -رضي الله عنه- مختصرا وصله في ((صحيحه)) فحدث به عن محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال:
صفحه ۳۵۸
((دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ ثم رفع يديه، فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه)) الحديث.
وحدث به مسلم في ((صحيحه)) عن عبد الله بن براد وأبي كريب عن أبي أسامة.
وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وصله البخاري أيضا في ((صحيحه)) فحدث به عن محمود، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر، وعن نعيم حدثنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه -رضي الله عنه- قال:
بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: ((صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر)) الحديث.
وفيه قال: ((حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه فرفع يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) مرتين.
صفحه ۳۵۹
وخرج أبو الحسن الواحدي في كتابه ((الدعوات)) بعد ترجمة ((رفع الأيدي في الدعاء)) من طريق محمد بن يونس الكديمي قال: حدثنا حماد بن عيسى الغريق حدثنا حنظلة بن أبي سفيان عن سالم عن ابن عمر عن عمر -رضي الله عنهما- قال:
((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا رفع يديه وإذا فرغ ردهما على وجهه)).
وحدث به أبو عيسى الترمذي في ((جامع الترمذي)) بعد أن بوب عليه فقال:
باب ما جاء في رفع الأيدي في الدعاء
حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى وإبراهيم بن يعقوب وغير واحد قالوا: حدثنا حماد بن عيسى الجهني عن حنظلة فذكره بنحوه.
صفحه ۳۶۰
وقال: ((هذا حديث صحيح غريب)) وذكر أن حمادا تفرد به.
والأحاديث في معنى ذلك كثيرة منها:
حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دعا لدوس استقبل القبلة ورفع يديه)).
ولما ذكر البيهقي في كتابه ((الدعوات)) حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا وحديث أبي موسى -رضي الله عنه- في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي عامر الذي ذكرناه قال:
((وفي هذين الحديثين دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء)).
وخرج البيهقي في كتابه ((الدعوات)) حديثا في صفة رفع الأيدي في الدعاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
صفحه ۳۶۱
((الإخلاص هكذا ورفع أصبعا واحدة من اليد اليمنى، والدعاء هكذا ورفع يديه وجعل بطونهما مما يلي السماء)) الحديث.
وخرج الواحدي في ((الدعوات)) من طريق الجارود بن يزيد عن عمر ابن ذر عن مجاهد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إن ربكم -عز وجل- حيي كريم يستحي أن يرفع العبد يديه فيردهما صفرا، فإذا رفع أحدكم فليقل: يا حي لا إله إلا أنت يا أرحم الراحمين ثلاث مرات ثم إذا رد يديه فليفرغ ذلك الخير على وجهه)).
والأحاديث كثيرة في معناه، ويكفي من ضل ما ذكرناه.
ولو لم يكن في ذلك إلا أن السلف فعلوه، واقتدى بهم الخلف ونقلوه، وصار كالإجماع بين المسلمين فكيف ينكر هذا الأمر الواضح المبين، ولعمري إن المنكر لهذا هو المنكر عليه وفي سكوته عما لا يعلمه مكرمة لديه.
صفحه ۳۶۲
ولقد روينا من حديث هشام بن عمار قال: سمعت مالك بن أنس يقول: أتى القاسم بن محمد أميرا من أمراء المدينة فسأله عن شيء فقال القاسم:
((إن من إكرام المرء نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه)).
فنسأل الله تعالى أن يعصمنا من الخطأ والزلل في النية والقول والعمل، إنه بالإجابة جدير وهو على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[قال المصنف]: علقته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وثمانمائة ولله الحمد.
صفحه ۳۶۳