آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (١٥)
الرد على الشاذلي
في حزبيه، وما صنَّفه في آداب الطريق
(يطبع كاملا لأول مرة)
تأليف
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
(٦٦١ - ٧٢٨)
تحقيق
علي بن محمد العمران
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
راجع هذا الجزء
سعود بن عبد العزيز العريفي
جديع بن محمد الجديع
المقدمة / 3
مقدمة الطبعة الثانية
(وخبر العثور على بقية الكتاب)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد سبق لنا قبل ثمان سنوات مضت تحقيق هذا الكتاب، وكانت النسخة الخطية الوحيدة للكتاب آنذاك ناقصة من أولها نحو ١٠ ورقات تقديرًا ذهبت بمقدمة الكتاب كاملة وما بعدها. كما شرحناه في المقدمة.
وقبيل أشهر قليلة وصلتني رسالة إلكترونية من شخص لا أعرفه تبشّرني بوجود هذا النقص (المقدمة مع أوائل الكتاب) في نسخة أخرى غير النسخة التي عندنا، فطِرتُ فرحًا بهذا الخبر الذي أتى بلا ميعاد ولا اجتهاد ولا سابق معرفة بمن وجدها.
وسألني الأخ الفاضل (في رسالته) إن كنتُ أريد هذه النسخة؟! وتعجبّت منه يسألني هذا السؤال؟ فكتبت إليه: لا نريدها فقط بل نرحل إليها، ونَبذلُ فيها الثمنَ، وهل للعلم ثمن؟!
فبادر جزاه الله خيرًا إلى إرسالها على البريد الإلكتروني سَمْحةً بها نفسُه، فإذا بها نسخة جيدة في (٢٨ ورقة) محفوظة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تكمل النقص الواقع في الكتاب، وهو نحو (١٤) ورقة، وتتفق مع النسخة الأولى في (١٤ ورقة) أخرى، تتضمن زيادات في مواضع متعددة، لكنها للأسف ناقصة نحو ثلثي الكتاب، وإن خَتَمها الناسخُ بما يوحي باكتمالها وعدم نقصها، كما شرحناه تفصيلًا عند وصف النسخة.
فكان ذلك كله داعيًّا لإعادة طبع الكتاب من جديد لتحقيق هذا الجزء
المقدمة / 5
الناقص من جهة، وحافزًا لإعادة النظر في نشرتنا الأولى قراءة وضبطًا من جهة أخرى، لتخرج طبعة مكتملةً للكتاب، مع زيادات وتصحيحاتِ النسخةِ الجديدةِ مما استدركناه على طبعتنا السابقة.
فالحمد لله على توفيقه، ونسأله المزيد من فضله، والشكر للأخوين الفاضلين الكريمين: الأخ الذي عثر على النسخة (ولم أعرف اسمه)، والأخ الذي تواصل معي بخصوصها، وأرسلها إليَّ، وهو أبو ربيعة عارف الغيثي، جزاهما الله خيرًا وبارك فيهما.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتب
علي بن محمد العمران
تحريرا في ٢٨ / ربيع الثاني / ١٤٣٧
في مكة المكرمة
المقدمة / 6
مقدمة التحقيق
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. وأصلي وأسلم على مَن بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، من تمسَّك بغَرْزه نجى، ومن اقتفى أثره وسلك سبيله ولزم محجَّتَه هُدي إلى صراط مستقيم. ومَن تنكَّب سبيله وحاد عن منهجه أو استبدل به غيره تنازعَتْه الأهواءُ وتشعَّبت به السُبل.
أما بعد؛ فهذا أثر عزيز من آثار الإمام العلامة أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمة الله عليه، خصصه هذه المرة لجواب سؤال وردَ إليه عن «حزب البحر» لأبي الحسن الشاذلي (ت ٦٥٦)، ثم جاد الشيخُ (وجُودُه العلميُّ سابغ) ببيان ما في حزبه الآخر المسمّى «حزب البر» من الأخطاء العقدية، والعبارات الملتبسة، والأدعية الممنوعة الباطلة. ثم أَتْبَعَه بنقد كلامه فيما «صنَّفَه في آداب الطريق في علم الحقيقة».
ولا يخفى أنّ أتْبَاعَ الطرق الصوفية قد استبدلوا الأدعيةَ المرتبة والأحزاب الصوفية المخترعة بما جاء في السنة المطهرة على لسان مَن لا ينطق عن الهوى، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ فوقعوا في مخالفة الشرع الحنيف، وفاتهم الخير العظيم.
وقد نبَّه المؤلف على ذلك في مواضع من كتبه، قال: «المشروع للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة، فإن الدعاء من أفضل العبادات، وقد نهانا الله عن الاعتداء فيه، فينبغي لنا أن نتّبع فيه ما شرَعَ وسَنَّ، كما أنه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات.
المقدمة / 7
والذي يعدل عن الدعاء المشروع إلى غيره ــ وإن كان من أحزاب بعض المشايخ ــ الأحسنُ له أن لا يفوته الأكمل الأفضل وهي الأدعية النبوية؛ فإنها أفضل وأكمل باتفاق المسلمين من الأدعية التي ليست كذلك وإن قالها بعض الشيوخ ...
ومن أشد الناس عيبًا من يتخذ حزبًا ليس بمأثور عن النبي ﷺ، وإن كان حزبًا لبعض المشايخ ويدع الأحزابَ النبويةَ التي كان يقولها سيد بني آدم وإمام الخلق وحجة الله على عباده» (^١) اهـ.
وقال أيضًا: «وأما ما يفعله من يريد التقرب إلى الله من واجب ومستحب؛ فكلهم يأخذه عن الكتاب والسنة، فإنّ القرآن والحديث مملوء من هذا، وإن تكلم أحدهم في ذلك بكلام لم يسنده هو يكون هو أو معناه مسندًا عن الله ورسوله، وقد ينطق أحدهم بالكلمة من الحكمة فتجدها مأثورة عن النبي ﷺ ... ولكن كثير من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يُعرف به طريق الله ورسوله فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ.
وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة، وإنما اختلف أهلُ الكلام لمّا أعرضوا عن الكتاب والسنة، فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف. وهكذا طريق العبادة عامةُ ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو
_________
(^١) «مجموع الفتاوى»: (٢٢/ ٥٢٥).
المقدمة / 8
بسبب الإعراض عن الطريق المشروع، فيقعون في البدع، فيقع فيهم الخلاف» (^١) اهـ.
وقد كان للمؤلف ﵀ نشاط كبير في تصحيح عقائد الناس والتحذير من البدع، وكشف تلبيساتهم على العوام، فوقع بينه وبين كثير من الصوفية على اختلاف طرقهم ومذاهبهم: نزاعاتٌ ومناظراتٌ وردود كثيرة، سواء في دمشق أو إبَّان إقامته بمصر (بين سنتي ٧٠٥ - ٧١٢)، ومن أشهرها ما وقع مع زعيمهم ابن عطاء الله السَّكَنْدري (ت ٧٠٩) ــ تلميذ أبي العباس المرسي (ت ٦٨٦) أبرز أتباع أبي الحسن الشاذلي (ت ٦٥٦) ــ. حتى بلغ الأمر أن استعدى ابنُ عطاء الله السلطةَ في ذلك الوقت على الشيخ، بحجة أنه يتكلم في مشايخ الطريقة. وفي إحدى المرات جمعَ ابنُ عطاء الله أكثر من خمس مئة من الصوفية والعوام، وطلعوا إلى قلعة الجبل حيث نائب السلطنة لشكاية الشيخ، والنيل منه، لكنهم لم يظفروا بطائل (^٢).
وقد كتب شيخ الإسلام سلسلةً من حلقات النقد خصَّصها للصوفية وكتبهم وأفكارهم، فمنها:
- نَقْد كتاب «فتوح الغيب» لعبد القادر الجيلاني. مطبوع.
- ونَقَد «الرسالة القشيرية» في كتابه «الاستقامة». مطبوع.
- ونَقَد كتابَ ابنِ العريف في التصوف «محاسن المجالس» بكتاب مستقل. ذكره ابن رُشيِّق.
_________
(^١) «مجموع الفتاوى»: (١٩/ ٢٧٣ - ٢٧٤).
(^٢) انظر «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص ١٨٢، ٢١٤ - ٢١٥، ٤٢٦).
المقدمة / 9
- ونقد أبا إسماعيل الهروي وكتابه «منازل السائرين».
- ونقد «المرشدة» لابن التومرت. طبع.
- ونقد الحكيمَ الترمذي وكتابه «ختم الأولياء».
- وكتب رسالة إلى أصحاب الشيخ عدي بن مسافر. طبع.
- وكتب كثيرًا في الرد على ابن عربي وغيره من متفلسفة المتصوفة. طبع بعضها.
- وكتب عن الأبدال والأوتاد والأقطاب عدة رسائل. طبع بعضها.
- وكتب عن السماع رسائل عديدة.
- وكتب عن الصوفية ونشأتها وطوائفها وأعلامها والرد عليهم، في كتب خاصة ورسائل كثيرة (^١).
ويأتي هذا الرد على أبي الحسن الشاذلي في أحزابه وطريقته في السلوك حلقةً جديدة في هذه السلسلة.
وسنتكلم عن هذا الكتاب في المباحث التالية:
_________
(^١) انظر لهذه الكتب وغيرها «مجموع الفتاوى» المجلدين العاشر والحادي عشر، و«جامع المسائل»، و«جامع الرسائل»، وبعض هذه الكتب لم يطبع.
المقدمة / 10
اسم الكتاب، وسبب تأليفه، ومتى ألَّفه
* أما اسمه، فلم نجد ما يدلنا على تسمية المؤلف لكتابه، ولا سمَّاه اسمًا عَلَميًّا أحدٌ ممن ذكره من تلاميذه أو غيرهم، وليس في نسخة (م) اسم الكتاب؛ لأنه قد سقطت منها ورقة العنوان ومقدمة الكتاب، كما سيأتي. وأما الاسم المكتوب في النسخة الثانية (ت) وهو: «كتابٌ فيه جواب الشيخ الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي ﵀ للسائل عن «حزب البحر» المنسوب للشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى» فليس اسمًا عَلَميًّا أيضًا، بل وصف لموضوع الكتاب وشرح له.
أما مَن ذكروا الكتاب فلم يزيدوا على قولهم: إن ابن تيمية رد على الشاذلي في حزبه. قال ابن عبد الهادي تلميذه وهو يعدد كتب شيخه: «وجوابٌ على حزب أبي الحسن الشاذلي وما يشبهه» (^١). وقال الصفدي: «وللشيخ تقي الدين ابن تيمية مصنَّف في الرد على ما قاله الشاذلي في الحزب» (^٢). ولذلك رأينا من المناسب أن يكون عنوان الكتاب: «الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق».
* أما سبب تأليفه؛ فهو جواب على سؤال ورد إليه عن «حزب البحر» للشاذلي، وساقَ السائلُ الحزبَ كاملًا، وقد ذكر المؤلف أيضًا (ص ١٥٧) في أثناء كلامه أن بعض الطلاب سألوه عن هذه الأحزاب وما تضمنته من الأدعية، وأن جوابه كان بسبب سؤالهم، قال: «ولولا أنه قد اشتهر فسادُ قولِ هؤلاء (أي
_________
(^١) «العقود الدرية» (ص ٩٠).
(^٢) «الوافي بالوفيات»: (٢٢/ ٢١٤).
المقدمة / 11
أصحاب الحلول) للسائلين عن هذه الأحزاب لبسطنا فيه الخطاب» اهـ.
* أما تاريخ تأليفه، فلم نجد نصًّا بذلك، لكن إذا علمنا أن تاريخ كتابة نسخة (م) كان في سنة (٧٢٣). كما صرّح به ناسخها أيوب العامري ــ وهو من المعتنين بنسخ كتب المؤلف كما سيأتي ــ أي أنها نُسِخت قبل وفاة المؤلف بخمس سنوات؛ فأصبح يقينًا أن المصنف كَتَبه قبل هذا التاريخ.
أما تحديد تاريخ تأليفه، فيغلب على الظن أنَّه ألَّفه بمصر إبَّان إقامته هناك بين سنتي (٧٠٥ - ٧١٢) في سَوْرة احتدام الصراع بينه وبين طوائف المبتدعة، خاصة الصوفية بأنواعهم، وكان منهم أتباع الشاذلي كابن عطاء الله السَّكَندري الصوفي الشاذلي (ت ٧٠٩) صاحب كتاب «لطائف المنن» في مناقب الشاذلي وتلميذه المرسي. كما ذكرنا قبل قليل.
وكان غرض المؤلف من هذا الجواب: بيان الحق ونصيحة الخلق ممن لا يعرفون ما في هذه الأحزاب من الأدعية الباطلة المحرمة. وأشار الشيخ أيضًا أنه تصدّى لهذا الرد لأن بعض الناس قد يجبن عن الكلام في هذه الأحزاب خوفًا من عواقب ذلك (^١).
وذلك يوحي بسطوة شيوخ التصوّف على العوام، وتأثيرهم الكبير على السلطة، فيخشى من يتصدّر للرد عليهم من عواقب ذلك، لكن تلك الأراجيف لم تنفق عند شيخ الإسلام في قوته وثبات عزيمته وحرصه على نفع الناس وإصلاح عقائدهم وسلوكهم.
* * * *
_________
(^١) انظر (ص ٢٣٩) من الكتاب.
المقدمة / 12
إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه
الكتاب ثابت النسبة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية بأمور:
١ - أن هذا الكتاب ذكره جماعة من تلاميذ شيخ الإسلام وغيرهم، منهم:
أ- ابن عبد الهادي (ت ٧٤٤)، ذكره في ترجمة شيخه «العقود الدرية» (ص ٩٠).
ب - ابن الوردي (ت ٧٤٩)، ذكره في «تاريخه»: (٢/ ٢٠١).
ج - الصفدي (ت ٧٦٤)، ذكره في «الوافي بالوفيات»: (٢٢/ ٢١٤) في ترجمة الشاذلي.
د - ابن الملقّن (ت ٨٠٧) في «طبقات الأولياء» (ص ٤٥٩).
هـ- الشعراني في «طبقات الصوفية الكبرى»: (٢/ ٤).
٢ - أن الكتاب منسوب للشيخ في نسخة (ت) كما في الورقة الأولى منها، وعقب السؤال.
٣ - أن موضوعات الكتاب تتوافق مع ما قرره شيخ الإسلام في كتبه الأخرى، وقد أشرنا إلى ذلك في مواضع كثيرة من هوامش الكتاب.
٤ - أسلوب الشيخ المعروف لا يختلف في هذا الكتاب عن باقي كتبه الثابتة عنه.
٥ - كثيرًا ما كان يحيل المصنف على كتبه الأخرى لاستكمال بحث أو مسألة بقوله: «وقد بسطناه في موضع آخر»، أو نحوها من العبارات التي درج ابن تيمية على استعمالها، وقد أحلنا على كتبه في عموم تلك المواضع.
المقدمة / 13
٦ - أن المؤلف قد ذكر الشاذليَّ في عددٍ من كتبه ناقدًا إياه بنحو ما ذكره هنا، كما في «الفتاوى»: (٢/ ٩٦)، (١٠/ ٧١٣)، (١٤/ ٣٥٨ - ٣٥٩ و٣٦٥)، و«درء التعارض»: (٥/ ٣٥٣)، و«الرد على البكري» (ص ٤٢٧)، و«الاستقامة»: (٢/ ١٣٠ - ١٣١).
٧ - أن شيخ الإسلام ذكر في هذا الكتاب (ص ٢٠٤) قاضي اليهود الذي أسلم على يديه بقوله: «ولقد سألني قديمًا عبد الله (^١) الذي كان قاضي اليهود ودعوته إلى الإسلام وبينتُ له أعلامه حتى أسلم وحَسُن إسلامه ...» ثم ذكر قصته معه.
وقد ذكر المؤلف هذه القصة في مواضع من كتبه بنفس هذا السياق أو نحوه. انظر: «مجموع الفتاوى»: (٢/ ٣٥٩)، (١٣/ ١٨٧ - ١٨٨).
٨ - أن ناسخ نسخة (م) أيوب العامري من تلاميذ شيخ الإسلام المعروفين بنسخ كتبه، وهو ممن صَحِب الشيخَ أبا عبد الله بن رُشَيِّق ــ تلميذ شيخ الإسلام وناسخ كتبه ــ وترافق معه في نسخ كتب الشيخ ومقابلتها، كما سيأتي عند الحديث عنه (^٢).
* * * *
_________
(^١) كذا، وصوابه «عبد السيد» كما في «الفتاوى» في المواضع المذكورة، ومصادر ترجمته. انظر «البداية والنهاية»: (١٨/ ١٠، ١٤٨)، و«الدرر الكامنة»: (٢/ ٤٧٦).
(^٢) (ص ٣٦ - ٣٧).
المقدمة / 14
تقسيم موضوعات الكتاب
أجاب المؤلف على هذا السؤال عن «حزب البحر» من وجهين:
الوجه الأول: مقدمة تأصيلية طويلة من (ص ٣ - ٣٧) تكلم فيها عن القواعد الضابطة للعبادات بأنواعها من صلوات وأذكار وغيرها، ومتى تكون العبادة مشروعة، ومتى تكون ممنوعة، وتكلم عن ما إذا اجتمع إلى فعل العبادة تخصيص وقت معين لها لم يحدده الشارع، وعن ما إذا اجتمع إلى ذلك وقوع ألفاظ وعبارات لم يأت بها الشارع أو دخل فيها عبارات غير مشروعة ... إلى غير ذلك من الأحوال والأوصاف التي قد تطرأ على العبادات التي لم يشرعها الشرع الحنيف، أو كان أصلها مشروعًا وأضاف إليها الناس ألفاظًا أو أفعالًا أو أوقاتًا لم تأت في الشريعة.
واستطرد المؤلف كعادته في ذِكر بعض ما يناسب المسألة، وذِكر أمثلة كثيرة لعبادات مخترعة أو مختلف فيها.
وتكلم على الكتب التي جَمَعت الأدعية وما فيها من أحاديث ثابتة وغير ثابتة، وعلى أحزاب المشايخ وما يقع فيها من ألفاظ خارجة عن الشرع بل قد تخرج إلى الكفر.
ثم ذكر الشاذلي وأثنى عليه وأنه من خير هؤلاء الشيوخ (أصحاب الأحزاب) ومن أفضلهم معرفة وحالًا وأتبعهم للشريعة وتعظيمًا للكتاب والسنة وتحريضًا على متابعة النبي ﷺ = وأنه مع ذلك فلابدّ من عرض كلامه على الكتاب والسنة سواء قاله هو أو مَن هو أكبر منه، وضرب لذلك أمثلة، ثم تكلم عن موقف المسلم من هذه الأحزاب، وهل تستعمل في الأذكار أم
المقدمة / 15
لا؟ وما الموقف من أصحابها، وخلص إلى أن الحزب المسؤول عنه وقع فيه ما هو منكر في نفسه من كلمات ودعوات، وأنه يُنكر مطلقًا سواء اتخذ لقراءته وقت محدد أو لا.
وأشار إلى قضية الإنكار على مثل هؤلاء وضوابطها وما يترتب عليها. وذكر قبل ذلك البدعة والتحذير منها، وتقسيمها إلى حسنة ومذمومة وما فيه.
ثم تكلم عن مسألة اجتماع المدح والذم في الشخص الواحد، والخلاف في وقوعها في الفعل الواحد، وتحرير مذهب أهل السنة في ذلك.
الوجه الثاني من الجواب: وذكر فيه ثلاثة أمور:
الأول: نقد ما وقع في «حزب البحر» من أخطاء، وهو الحزب المسؤول عنه أصالةً، ويبدأ من (ص ٣٨) إلى (ص ٩٦). وذَكَر شيخ الإسلام أن هذا الحزب هو أمثَل أحزاب الشاذلي وأقلّها خطأً. وقد ذكر عليه عشرة أوجهٍ من النقد.
الثاني: نقد ما وقع في «حزب البر» ويسمّى «الحزب الكبير» من أخطاء، ويبدأ من (ص ٩٧) إلى (ص ١٥٧). وهذا الحزب شرّ من «حزب البحر» كما قال المصنف: «ففيه من الأمور المنكرات والدعوات المحرمات ما يتعيَّن النهيُ عنه ...» اهـ. وقد ناقش المصنف فيه قضايا عديدة أهمها: ارتباط كلام صاحب الحزب بمتصوّفة الفلاسفة أصحاب الوحدة كابن عربي وغيره.
وقد جرى المؤلف في نقده هذين الحزبين على حسب ترتيبهما.
الثالث: نقد ما صنَّفه الشاذلي في آداب الطريق في علم الحقيقة، وهو يبدأ من (ص ١٥٨) إلى (ص ٢٣٨). وقد بدأه بنقل كلام الشاذلي كاملًا في ست
المقدمة / 16
صفحات كاملة. ثم ينقل عباراته فقرةً فقرة ويردّ عليها.
ثم عقد فصلًا من (ص ٢٣٩) بيَّن فيه إنصافه للرجل، وأنه لم يحَمِّل كلامَه ما لم يحتمله.
* * * *
المقدمة / 17
أبرز الملحوظات التي أخذها المؤلف على الشاذلي
في هذه الأحزاب
١ - أن فيها الكثير من العبارات والأدعية التي لا يجوز الدعاء بها، لما فيها من المحاذير الشرعية، والاعتداء في الدعاء: كما في (ص ١١٤)، والتناقض (ص ١٠٠)، ووضع الآيات في غير مواضعها (ص ٩٣). ولم يكتف المؤلف ببيان أخطاء الشاذلي، بل كان يضع العبارات الشرعية البديلة، التي تؤدِّي الغرضَ المقصود، إما من أدعية الكتاب والسنة، أو من العبارات البديلة التي لا محذور فيها.
٢ - أن الشاذليّ وغيره ينقلون من كتب الصوفية المتفلسفة عباراتٍ مخالفة في حقيقتها لدين المسلمين من غير معرفةٍ منهم لذلك، قال المؤلف (ص ٨٢): «وصاحب الحزب وأمثاله من المتأخرين ينظرون في كتب الصوفية التي فيها ما هو مبنيّ على أصول الفلاسفة المخالفين لدين المسلمين، فيتلقون ذلك بالقبول، ولا يعرفون حقيقته، ولا ما فيه من الباطل المخالف لدين الإسلام ...» اهـ.
وقد نبَّه المصنف إلى ذلك في مواضع من الكتاب: (ص ٢١، ٥٩ - ٦٠، ١٤١، ١٨٣).
وقد جَهِد المصنف في ربط كلام الشاذلي بكلام فلاسفة المتصوفة كالغزالي في الكتب المضنون بها، وابن عربي، وإخوان الصفا في رسائلهم، وابن الطفيل، وابن الفارض، وغيرهم. وبيَّن المؤلف أن الشاذلي قد اتكأ على هذه الكتب، واعتمد بعض ما فيها من غير إدراكٍ منه لما تفضي إليه من الباطل، وذلك إحسانًا للظن به.
المقدمة / 18
وخلص المؤلف إلى أن أحزاب الشاذلي ــ مع ثنائه عليه في الجملة ــ تتضمن ما يُنكر من الذِّكر والدعوات، فينبغي إنكار ما فيها مطلقًا، سواء أحْدِث لها اجتماع راتب أو لم يُحْدَث، وذلك بخلاف الأوراد والدعوات التي يكون جنسها سائغًا لا منكر فيه، فليس الدعاء بها منكرًا إذا فعله الشخص الداعي أو غيره ما لم يُتّخذ ذلك سنة راتبة.
ولقد حاول علي سالم عمار الصوفي الشاذلي ــ صاحب كتاب «أبو الحسن الشاذلي: عصره ــ تاريخه ــ علومه ــ تصوفه» (^١) ــ أن يردَّ عن الشاذلي ما أخذه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، في ثلاث مسائل ذكرها في كتابه، ولم يذكر من أين نقل كلام ابن تيمية حول الشاذلي إلا في الموضع الأول، فقد كان بواسطة كتاب «جلاء العينين» لنعمان الآلوسي، لكنه لم يوفَّق في ذلك. ومن اليقين عندي أنه لم يسمع بكتابنا هذا فضلًا عن أن يطَّلع عليه. أما المسائل التي ذكرها وحاول تخريج كلام الشاذلي فيها فهي:
الأولى: في الإقسام بالمخلوق والتوسّل والتشفُّع به، وهذه ليست في كتابنا هذا.
الثانية: في قول الشاذلي في حزب البحر: «نسألك العصمة في الحركات والسكنات ...».
الثالثة: في قوله في حزب البر: «وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك ...».
* * * *
_________
(^١) (١/ ٢٤٩ - ٢٦٦).
المقدمة / 19
فصلٌ في كلام المؤلف على الشاذلي في كتبه
أنصف المؤلفُ الشاذليَّ، فذكره في كتابنا هذا (ص ١٨) وأنه من خير مشايخ الصوفية وأكثرهم تعظيمًا للكتاب والسنة وتحريضًا على متابعة النبي ﷺ، وأن أحزابه خير من غيرها وأقل منكرات مع ما وقع فيها من الألفاظ البدعية والعبارات المنكرة التي توجب إنكار قراءتها فضلًا عن الاجتماع لذلك واتخاذه سنة.
وقد جاء ذكر أبي الحسن الشاذلي في عدد من كتب شيخ الإسلام في معرض النقد والتنبيه على ما وقع في كتبه من مخالفات، وعلى ما نُقل عنه من أحوال، فنذكر ما وقفنا عليه.
قال في «مجموع الفتاوى»: (١٤/ ٣٥٨ - ٣٥٩): «وتارة يقولون: يُفعل هذا لأهل المارستان، أي العامة! كما يقوله الشيخ المغربي، إلى أنواع ليس هذا موضع بسطها. ومن يسلك مسلكهم غايته إذا عَظّم الأمر والنهي أن يقول كما نُقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهودًا والفرق على لسانك موجودًا. ولهذا يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي، مثل: أن يدعو أن يعطيه الله إذا عصاه أعظم مما يعطيه إذا أطاعه (^١)، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بل أفضل منهم! ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في أحزاب (^٢) الشاذلي. وقد بسط
_________
(^١) ينظر كتابنا هذا (ص ١١٢ - ١١٣).
(^٢) في «الفتاوى»: «جواب»، وهو تحريف صوابه ما أثبت.
المقدمة / 20
الكلام على هذا في غير هذا الموضع» (^١).
وقال أيضًا في «الفتاوى»: (١٤/ ٣٦٥): «وصرح بعضهم بأنه يعلم كل ما يعلمه الله، ويقدر على كل ما يقدر الله عليه. وادَّعوا أن هذا كان للنبي ثم انتقل إلى الحسن بن علي ثم من الحسن إلى ذريته واحدًا بعد واحد حتى انتهى ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي، ثم إلى ابنه! خاطبني بذلك من هو من أكابر أصحابهم» (^٢).
وقال في «الرد على البكري» (ص ٤٢٧): «وآخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا، كان يقول: إن النبي ﷺ يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه الله، وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع».
وقال في «درء التعارض»: (٥/ ٣٥٣): «ولهذا كان الأئمة منهم كالجنيد وأمثاله يتكلمون بالمباينة، كقول الجنيد: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. وفي كلام الشاذلي والحرالي بل وابن برَّجان بل وأبي طالب وغيرهم، من ذلك ما يعرفه من فهم حقيقة الحق وفهم مقاصد الخلق».
وقال في «مجموع الفتاوى»: (٢/ ٩٦) مشيرًا إليه: «ومن هؤلاء من
_________
(^١) هذا النقل من رسالة الحسنة والسيئة، وهذه الرسالة اختصر بعض النساخ مواضع منها فأدْخلت في «مجموع الفتاوى» على أنها رسائل مختلفة، فتكرر هذا الكلام عن الشاذلي، انظر «الفتاوى»: (٨/ ٢٣٢ و١٤/ ٢٢٦)، و«صيانة مجموع الفتاوى» (ص ٧٠، ١٢٤ - ١٢٧).
(^٢) ينظر كتابنا هذا أيضًا (ص ٥٢).
المقدمة / 21
يكون طلبه للمكاشفة ونحوها من العلم أعظم من طلبه لما فرض الله عليه، ويقول في دعائه: اللهم أسألك العصمة في الحركات والسكنات والخطوات والإرادات والكلمات؛ من الشكوك والظنون والإرادة والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب». وهذه نص عبارة الشاذلي في حزبه (^١).
* * * *
_________
(^١) انظره في صدر كتابنا هذا (ص ٣) ورد المؤلف (ص ٢٢) من قسم التحقيق.
المقدمة / 22