ولما كانت تلك السيادة تتمثل في شخص الفرعون وتتماهى في سيادته، فإنه سيكون مقبولا أن تظهر في مصر فكرة إله يرعى مصالح الطبقة السائدة، ويعبر عن سيادتها، سيكون مقبولا أيضا انتشار ذات الفكرة التوحيدية لدى الفئات المطحونة التي تريد إلها لا يفرق في توزيع الأرزاق، ومن ثم سيكون مقبولا بالتالي أن تتأثر جماعة «موسى» في مصر بظروف مصر، رغم أن نظامها القبلي شوه الفكرة وقصرها على توحيد إله القبيلة الإسرائيلية، بمعنى الاعتراف بآلهة الشعوب والقبائل الأخرى، لكن مع عدم توقير أي إله آخر سوى إله بني إسرائيل، أما أن تقفز فكرة التوحيد فجأة دون بنية تحتية تسمح بها في جزيرة العرب، في ذلك الزمن العتيق، في وسط قبلي متشرذم لا يسمح، ولا تسمح معه قوانين التاريخ التي لا شك يعلمها الأستاذ الصليبي جيدا، بظهور ذلك التوحيد، حتى لو كان توحيدا ابتدائيا، فهو الأمر الذي يجافي منطق العلم بالكلية.
لكن الأستاذ هنا لا يرى الوسط قبليا متشرذما، بل دولة قامت هناك، أقامها شاءول وداود وسليمان، ويرى في ذلك دليله الأقوى، الذي رفض بموجبه تفسير العلماء لسجلات التاريخ التقليدية في مصر وآشور، باعتبارها تتحدث عن فلسطين، حين قال إنه لو كانت دول الإمبراطورية تتعارك في فلسطين، لدونت أسماء هؤلاء الملوك «شاول، داود، سليمان» وهو ما لم يحدث، ونتيجته الحتمية أن هؤلاء الملوك لم يتواجدوا بفلسطين، دون أن يفطن سيادته أن الحجة مردودة عليه، فإذا كانت تلك الحملات الإمبراطورية موجهة ضد مملكة إسرائيل اليهودية في عسير، وكان «صليبي» صادقا في مذهبه، فإن الطبيعي أن تذكر نصوص مصر والرافدين أسماء هؤلاء الملوك الذين حكموا في عسير، وهو أيضا ما لم يحدث، ويتعادل الموقف ، ثم يرجح لصالح فلسطين.
هذا ناهيك عن كوننا لو اعتمدنا أسلوب الأستاذ الباحث في المطابقة لأسماء المواضع والأماكن والأشخاص، مع نصوص التوراة أو حتى مع نصوص لدولة ما، لأمكن أن نكتشف ببعض التعسف ولي التفاسير، أن مصر كانت في فلسطين، وأن فلسطين كانت في سيناء، وأن الدول الفينيقية كانت في شمال أفريقيا وإسبانيا، دون مشاكل كثيرة، كما يمكننا ببساطة أن نضع جزيرة العرب في صعيد مصر حيث حلت هناك القبائل العربية مع الفتح الإسلامي وأعادت التسميات، والأمر كله يعود إلى حركة الهجرات القديمة وإعادة تسمية المواضع، وهو الأمر الذي أشار إليه الصليبي نفسه، وهو الأساس الذي بنى عليه عمله بالكامل، وهو الأساس الذي لا يعول عليه إطلاقا، لبناء مثل تلك النظرية التي طرحها، والتي تتسم بغرابة وخطورة هائلة، لا تتناسب وأدوات البحث المستخدمة في سبيل إثباتها.
أما الدافع الذي نظنه كان بداية الخيط في اندفاع الصليبي، هو اسم جبل «عسير» متقاطعا بالميتاتيز «القلب اللغوي» مع جبال «سعير» التي ذكرت التوراة ونصوص مصر أنها كانت جبالا ودولة تقع ما بين خليج العقبة، وبين البحر الميت، أي على حدود سيناء الشرقية مع بادية الشام. وقد تحدثت التوراة عن «سعير/بلاد إدوم»، باعتبارها دولة مستقلة عن فلسطين، وعن دولة إسرائيل عموما، ودخلت في حروب مع دولة إسرائيل مرات، وفي تحالفات مرات أخرى، أي أنها لم تكن ذات دولة إسرائيل، لكن الدكتور «الصليبي» عمد إلى نقل إسرائيل الدولة، وفلسطين الأرض بكاملها إلى جبال «سعير» في دولة «إدوم»، ثم نقل جبال «سعير» إلى بلاد العرب محتسبا إياها جبال «عسير»، وأن الأمر لا يعدو قلبا لسانيا كما في «زوج/جوز»، وهو المثال الذي ضربه بكتابه للتدليل على نظريته، بينما تم إلغاء دولة «إدوم» التي قامت في جبال «سعير» على حدود مصر، والتي تحدثت بشأنها نصوص مصر في إبان حديثها عن حملات مصر التأديبية للدولة المشاغبة المجاورة، كما أفاضت في الحديث عنها نصوص التوراة حتى آخر سفر فيها.
هذه لمحات سريعة موجزة مقتضبة، لم نقصد بها النقد المفصل والتوثيق الكامل، فمثل ذلك الرد الناقد يحتاج إلى كتاب قد لا يقل حجما عن كتاب الصليبي نفسه، وهو ما يخرج الآن عن دائرة همومنا، فقط رأينا في ضوء الحماس الغريب في أوساط مثقفينا للصليبي أن هناك واجبا علينا للتوضيح والتبيان ليس إلا، ولعل قارئنا قد لاحظ أننا لم نحاول أن نسقط على الرجل أي اتهامات سياسية؛ لقوله بعروبة الإسرائيليين، أو تكفيرات دينية؛ لإنكاره عبور البحر بالعصا المعجزة ، أو نعوت بالخيانة القومية، كما حدث في بعض صحفنا العربية الغراء، فتصوروه ينظر لمطلب جديد لإسرائيل بالعربية السعودية، وهو نقد يعبر عن خصاء ذهني ونفسي وشلل في القدرات، وعدم ثقة لا بالذات ولا بالوطن، إضافة إلى أننا نرفض أي تعامل من منطق الإدانة والتكفير؛ فهو المنطق الأعرج الذي انتهى بنا إلى مقلب نفايات الأمم.
حتى لا نفسد تاريخنا: قليل من العقل وبعض من الضمير1
تحت عنوان رئيسي «بلاغ إلى شيخ الأزهر والمفتي وعلماء الإسلام»، وعنوان فرعي «وزارة التعليم تفتري على أمير المؤمنين عثمان بن عفان»، نشرت صحيفة إسلاموية ما أسمته تحقيقا تقول: إنها تكشف فيه بالوثائق افتراءات الوزارة على عثمان وتبرئتها لليهودي «ابن سبأ» من دم عثمان! وأن الوزارة في أحد كتبها المدرسية اتهمت الخليفة باللين وتقريب أهله من بني أمية واختصاصهم برعايته، فكان أن طالبت وفود الأمصار الإسلامية عثمان بعزل ولاته، وانتهى الأمر بمقتله، وهو ما أدى إلى الفتنة والانقسام في صفوف المسلمين، ولم تنس الصحيفة الهمز من الدكتور «بهاء الدين» والغمز من قناته، وبإشارتها إلى أن تلك الافتراءات جاءت مع مجيء الوزير الحالي، ثم ترد على ما أسمته افتراءات بما رأته حقيقة ثم إغماض العين عنها. والحقيقة هي أنه في عهد سيدنا عثمان كانت الشريعة مطبقة والحدود مقامة والإسلام الذي يوجه حياة الأمة، وصارت الدولة الإسلامية أعظم دول العالم، وعم الرخاء وكثر المال على عهد عثمان حتى بيعت جارية بوزنها.
إذا كانت الدولة الإسلامية قد أصبحت أعظم دولة في العالم زمن الخليفة عثمان، وأن الرجل قد طبق الحدود وأقام الشرائع وحكم بالإسلام، ففيم قتل إذن؟ ثم تساؤل أكثر براءة: هل عصمت المؤسسة الإسلامية البلاد من الفتن والتمزق وقتل رأسها وخليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ ومع منهج التقديس المفرط، الذي يتحول بالبشر غير المعصومين إلى قدسية العصمة، لا يجد دعاته سوى البحث عن سبب خارج إطار الأحداث الموضوعية، فما دامت الشريعة مطبقة، والحدود مقامة، والدولة في أوج قوتها، وأهل ذلك الزمان هم من الصحابة الأجلاء، فليس هناك إذن من سبب واضح، وأن ضرب تلك القوة التي شرعت أسباب الأمان والتوحيد يحتاج إلى شيء أسطوري يملك قدرات خرافية، يتلبس لبوسا شيطانيا، ولا بأس هنا أن يتم اختياره من اليهود المبغضين، ليصبح هو المحرك الخفي وراء الأحداث الكبرى في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية بغرض إجهاض الإسلام، وحيث تمكن ذلك الشيطان اليهودي من إقناع الصحابة بالتحريض على عثمان، ثم قتله تلك القتلة المهينة، ثم تحريضهم بعضهم على بعض، ليقتلوا بعضهم بعضا، ويتقاذفوا التهم، ويتراموا بالكفر والفسوق، ويصبح ذلك الهلامي الغامض الشيطاني الهائل «ابن سبأ» تفسيرا سهلا يريح نوازعنا التي تنزع إلى تنزيه الصحابة، والتي تدفعنا لتكوين رأي في الصحابة هو أحسن من رأي الصحابة في أنفسهم، ونستبعد - كدأبنا دوما في كل نكساتنا - الأسباب الحقيقية للكوارث التي تحيق بنا، ونبحث دوما عن مؤامرات تحاك هنا وهناك يقودها حزب الشيطان لأمة الإسلام، خير أمة أخرجت للناس.
ثم لا نسأل أنفسنا: كيف تمكن شخص متفرد من فعل كل ما حل لدولة الإسلام وهي في أوج قوتها؟ وهي تلتزم كافة الفروض والسنن مما يعني - حسب منهجهم - أنها تحت رعاية الله مباشرة وحمايته؟ وأمر «ابن سبأ» بهذا التصور يجعل الأمة هزيلة ضعيفة مترنحة، يستمع أهلها للوشايات، كلهم آذان، يسارعون إلى الفتنة مع أول همسة، وبينما «ابن سبأ» ينشر ما يخالف كل مفاهيم الإسلام، أي إنه بات معلوم الأمر مشهور الكفر، فإن الصحابة يستجيبون له من فورهم، فينقسمون شيعا، ويقتلون بعضهم بعضا! وهو ذات المنهج الذي لا زال يمارس حتى اليوم، فلا نرى في كبواتنا أسبابها الحقيقة، ولا نعترف بهدوء بتلك الأسباب، إنما نبحث عن سبب خارجنا، وأن تلك الأسباب شياطين عظمية القدرة والشأن تبغي تخلفنا ودمارنا، غير مدركين أن انتصار الأعداء الدائم ليس إلا نتيجة لذلك التخلف أصلا.
صفحه نامشخص