إن الفيلم يضع العقل العروبي أمام تناقضه، فهو يؤمن بأديان تدين تاريخ المنطقة القديم لصالح التاريخ الإسرائيلي بينما يرفع شعارات النضال والتحرير من النهر إلى البحر! إن الفيلم يصنع هنا ما يمكن تسميته «صدمة الذاكرة» أو صدمة الإيمان لأولئك الذين لم يحاولوا حتى الآن فك الاشتباك بين الديني والقومي. وإذا كانوا يرفضون التطبيع بظاهر وعيهم فإنهم يؤسسون القومي لديهم على الديني، والديني أشد تطبيعا وطراوة مع بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين.
ولا أحد يكابر أن المأثور الإسلامي كمثال كان دوما إلى جانب الإسرائيلي ضد كل حضارات المنطقة فكان مع يوسف بن يعقوب وموسى بن عمران وبقية بني إسرائيل ضد مصر وحضارتها وشعبها وحكامها، وكان مع شاءول/طالوت أول ملك إسرائيلي، ومع داود مؤسس الدولة الإسرائيلية، ضد جالوت/جوليات البطل الفلسطيني الذي مات وهو يدافع عن أرضه ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني لبلاده، وكان مع أبيهم إبراهيم أرومة القبيلة العبرية ضد العراق القديم وحضارته ممثلا في شخص ملكها النمرود. وكان مع البدو العبران جميعا ممثلين في جدهم الأسطوري سام بن نوح ضد كل حضارات المنطقة ممثلة في حام بن نوح وأبنائه كنعان الفلسطيني ومصرايم المصري ونمرود العراقي.
حضارة موت
إن الوسيلة التي استخدمها الفيلم كانت شديدة الذكاء، لكن الغرض والهدف كان إلى جانب إجابة واحدة فقط على السؤال الذي يحتمل إجابات أخرى كثيرة. ومن ثم كان الفيلم يتساءل: إذا كان هذا هو ما نؤمن به فلماذا نتناقض معه؟ لماذا بصريح العبارة لا نطيع إذن؟ غافلا عن إجابة أخرى أصر عليها كاتب هذا المقال دوما تتمثل في ضرورة فك الاشتباك بين الديني والقومي إذا أردنا الاتساق مع أنفسنا ومع قضيتنا ومع آمالنا الوطنية والقومية.
وهكذا كانت التلميحات والترميزات الواضحة مدعاة للوقوف مع تلميحات أخرى يمكن أن يرى فيها المشاهد العربي بخاصة المصري في الظرف الراهن؛ لونا من تسفيه الإنسان المصري صاحب الحضارة التي شاخت في فيلم شاهين، وأخذت في التهاوي إزاء العبراني الطموح المتوثب للمعرفة والعلم. وعليه جاء الفيلم بتركيزه على القول: إن حضارة المصريين قد تم تكهينها وإن مصر قد حبست علومها داخل الجدران المسحورة للمعابد، وتحولت من حضارة حياة إلى حضارة موت، لا تهتم إلا بالتحنيط وبما بعد الموت، وكانت مشاهد «حرق الزرع» تصويرا لشعب أنعم الله عليه بالنهر والخصب، لكنه كان شعبا همجيا، يحرق آلاف الأفدنة في صراعاته، بينما رام العبراني يكرس حياته ليزرع سنبلة في الصحراء! أما تركيز الفيلم على الأقزام وإيداعهم أمانة لدى رام، فكان رمية أخرى موجعة للمصري القزم إزاء العبراني الأمين، هذا ناهيك عن الرمز الواضح في تحويل النهر نحو الصحراء لزراعتها، وكيف أمكن لرام بذلك الفرع الضئيل أن يزرع الصحراء.
وكان على شاهين أن يدرك أن المشاهد العادي لا يعلم أن القزم كان محببا في بيوتات الارستقراطية المصرية، وكانت تلك البيوتات تستجلبهم من أفريقيا للخدمة البيتية والترويح الفكاهي، حتى جعل المصريون للأقزام إلها هو الإله القزم «بس». ونعم كانت العلوم داخل المعابد، ونعم اهتم المصري بالتحنيط وبالموت اهتماما عظيما، وكان يمكن أن يمر ذلك بهدوء، باعتباره تصويرا للحياة المصرية في الزمن القديم، لكن أن يتم ذلك داخل إطار قصة إسرائيلية تتحدث عن تفوق الإسرائيلي الطموح في قصتها الأصلية أو في الفيلم فهو أمر آخر لا يمكن معه افتراض حسن النوايا!
ومن ثم يلقي الفيلم برؤيته «التطبيعية» في عمق التاريخ وفي أصول الدين ليجذرها ، فيركن بدهاء إلى القصة الدينية التوراتية التي وزرت يوسف خزانة المصريين، ويقدم لنا «رام» مكتشفا لأسلوب تخزين الحبوب في سنوات الجفاف التي استبدلها بحرق المحاصيل، ليذهب إلى ما هو أبعد من التطبيع. إنه يلمح إلى إدارة المنطقة بالعقل الإسرائيلي المتوثب المتفوق، عندما يسلم قائد الجند لرام جنوده وبلاده وأرضه ليكون أمينا على خزائنها ومستثمرا لها وراعيا!
مرة أخرى نعود إلى أسباب التعامل مع الفيلم على مستويات غير المستوى الفني وحده، في اشتباك الفيلم على مستوى ثان مع الديني والإيماني، وعندما فعل ذلك خرج من دائرة الفني وحده، حيث جعل مرجعيته ملكية عامة لجماهير المؤمنين في الأديان الشرق أوسطية الكبرى الثلاثة؛ فشخص يوسف بن يعقوب مقدس في اليهودية باعتباره أحد آباء القبيلة الإسرائيلية الأوائل، وهو مقدس في الإسلام لذات السبب بحسبان المسيح بدوره من ذات النسل الإسرائيلي المبارك، ثم هو مقدس في الإسلام لذات السبب، ثم لسبب آخر هو أنه أضاف ليوسف صفة النبوة، وهي ليست ملكية عامة فقط، بل ملكية مقدسة، ومن ثم فقد خرج الفيلم من دائرة الفني ليخوض في الديني، فوضع نفسه في موقع التعامل معه على هذا الأساس. ليس هذا فقط، بل إن الفيلم اختار لنفسه رؤية دينية دون أخرى، فحدد لنفسه بذلك موقفا من الروايات الدينية حول يوسف، وهو ما يضعه أمام مسئولية اختياره.
رواية التوراة
والواضح تماما أن المخرج حتى لا يقع في مأزق المحاكمات الإسلامية، فقد ركن إلى الرواية التوراتية حول الأب يوسف، بدليل إيراده المنمنمات وتفاصيل لم يذكرها القرآن إطلاقا، وإنما ذكرت تفصيلا في التوراة، وذلك مثل قصة رئيس الشرطة «فوطيفار» الذي اشترى يوسف الموصوف بجمال فاتن، والحب الشديد من «فوطيفار» ليوسف الصبي، ومن ثم لجأت التوراة لتطويش فوطيفار ووصفه بأنه كان خصي فرعون، وهو ما لم يذكره القرآن الكريم إطلاقا.
صفحه نامشخص