ولإحداث الأثر المطلوب من المحور الأساسي «النفساني» فقد ترك الرجل أثرا طيبا فعلا؛ فكان رقيق الحاشية، عف اللسان، وديعا كالحملان، يمد يده إلى جيرانه يستجديهم الصداقة والأمان، رغم أنه الأقدر والأقوى، لكنه من جانب آخر قام يردد: «إن الموضوع ليس موضوع أرض، إنه موضوع وجودنا ذاته.» فأي لون من التنازل يعني دمار شعب إسرائيل المسالم وإزالته من الوجود. وذلك في ضوء المقارنة التي قدمها لتعداد شعب إسرائيل «4 ملايين»، مع من حولهم من عتاة القتلة المتعطشين للدماء، وعددهم «170 مليون عربي» مع ضآلة مساحة أرض إسرائيل التي تستدعي الشفقة «27 ألف كم»، وسط محيط عربي شرس يبلغ «24 مليون كم». والحجة على المستوى النفسي مع تغييب الحقائق الأخرى، تبدو غاية في الوجاهة، يبدو فيها شعب إسرائيل بطلا للخير يدافع عن وجوده وسط غابة من البشر، مما يستدعي مشاعر الاشمئزاز من العرب الذين يستأسدون على الدولة الوديعة!
وقد عمد الخطاب - بذكاء - إلى استحضار مشاعر أخرى تمتزج مع مشاعر الاشمئزاز، عندما ذكر أن كل عدوان عربي على إسرائيل تم دحره! فتمتزج مع المشاعر الأولى مشاعر الاحتقار أيضا مع الاستهانة والاستخفاف، من شأن أجلاف البوادي، الذين يتحينون فرصة لا يجيدون حتى صنعها والوصول إليها. رغم ذلك فالرجل يمد يده إلى جيرانه أمام كل العالم ويشرح ما وقع على شعبه من مظالم، وذلك في قوله: «وللأسف فإن الزعماء العرب الذين كنا نود مصادقتهم، رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية! وانطلاقا من تحدي الشرعية الدولية، فقد حاولت الدول العربية احتلال وهدم الدولة اليهودية.»
وهكذا يختفي الفلسطينيون تماما ويصبح العرب - بلا سبب مفهوم أو واضح - يريدون تدمير إسرائيل المسالمة، التي تسعى لصداقتهم وحسن جيرتهم؛ لذلك أصبحت المسألة ليست مسألة أرض، إنما مسألة وجود شعب إسرائيل، وسط الحشد العربي الشرير! ومن ثم عمد الخطاب مباشرة إلى الضغط على ضمير العالم بمأساة الشعب اليهودي، الذي لاقى صنوف الاضطهاد، وأنه قد آن الأوان كي يصحو ضمير العالم، ليرد لهذا الشعب أبسط الحقوق، وهي الأمن، بل ويطلب من اليهود الصفح والمغفرة، «ألسنا عالما يدعي التحضر؟» ومن هنا أخذ يوجه حديثه إلى كل فرد في هذا العالم الخاطئ ويقول: «لقد تمت ملاحقة اليهود عبر التاريخ في كل القارات تقريبا، وتعرض اليهود للاضطهاد والتعذيب والذبح، وشهد هذا القرن خطة إبادة نفذت على أيدي النظام النازي، وهذه الكارثة والإبادة الجماعية المنقطعة النظير، والتي قضت على ثلث شعبنا، تمت في واقع الأمر، وأمكن تنفيذها؛ لأن أحدا لم يدافع عنا، فقد كنا بلا وطن، ولكن هذه الكارثة هي التي جعلت المجتمع الدولي يعترف بمطالبنا، القائمة على حقنا في أرض إسرائيل.» وهنا تجدنا مضطرين إلى تأجيل تناول المحورين «التاريخي والديني» لنحاول أن نفهم الآن: كيف أمكن للمذابح النازية ضد اليهود أن تؤدي إلى اعتراف العالم بحق إسرائيل في فلسطين، وقيام الدولة الصهيونية على أرضها؟ ونلاحظ أن الخطاب - بعد تهيئة المستمع نفسيا وعاطفيا - مع إشعال جذوة الضمير الحضاري وعقدة الذنب - ينتقل فورا إلى إعلان أنه رغم ظلم العالم لليهود، فليس لأحد حق الادعاء بقيام دولة إسرائيل؛ لأن ضحايا اليهود أيام النازي كانوا الثمن المدفوع سلفا، فقدموا أنفسهم قربانا على مذبح قيام الدولة. هذا بالطبع حق اليهود التاريخي الديني المعلوم في تلك الأرض، وكل ما في الأمر أن العالم ربما نسي تلك الحقيقة بعد طول اغتراب اليهود عن فلسطين، وما حدث من النازي كان فقط عامل الإنعاش للضمير العالمي الخاطئ.
الخطاب الصهيوني بذلك يعمد إلى لون فاضح من التزوير والتلفيق، فرغم أن المذنب هو النازي، فهو لا يذكر أبدا أنه ليس من المقبول حضاريا وحقوقيا وإنسانيا أن يدفع الفلسطينيون وزر الجريمة النازية، والمعلوم أنه في فلسطين تحديدا، وعندما وقع اضطهاد على اليهود كان بداية من جانب الرومان الذين دمروا الهيكل الثاني، وشتتوا اليهود في بقاع الدنيا، لأسباب تاريخية معلومة. أما الاضطهاد الثاني فقد جاء على يد الصليبيين، عندما استولوا على القدس عام 1099م، وقاموا بحرق اليهود داخل معابدهم؛ مما أدى إلى هروبهم الجماعي من فلسطين، وهو ما وضح في سقطة لسانية بخطاب شامير عندما قال: «إن اليهود كانوا موجودين باستمرار في فلسطين باستثناء فترة المملكة الصليبية القصيرة.» لكنه بالطبع لم يذكر السبب، كما لم يذكر أن سبب تواجدهم بعد ذلك في فلسطين، كان نتيجة سماح صلاح الدين لهم بالعودة بعد استعادة العرب لها من يد الصليبيين.
أما إشارة الخطاب إلى أن كل شعوب العالم قد اضطهدت اليهود الذين عاشوا بين ظهرانيهم ، فهو أمر يستحق الدهشة والتساؤل؟! لماذا تجمع شعوب مختلفة المواطن، متباينة المشارب والعقائد، على كراهية مواطنين مثلهم، ولكن من ملة اليهود؟! هذه فزورة لا يحلها إلا السيد شامير.
العلاج النفسي
واللافت للنظر هو تركيز الخطاب الصهيوني الدائم على الجريمة الهتلرية ضد اليهود، ففي كل «حدوته» وفي أي مناسبة (وبدون مناسبة) يتكرر ذكر المذبحة النازية لليهود التي اكتست بطابع ديني. بحيث لا يذكر هتلر، إلا وتذكر كراهيته للدين اليهودي وأتباعه. وأنه ما ذبح هؤلاء إلا لكونهم يهودا! حتى نسي العالم أن ضحايا النازية من غير اليهود قد بلغ ستين مليون إنسان، وأن الضحايا المدنيين فقط وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين بولوني، وستة ملايين سلافي، وضاع ذكرهم وسط الضجيج والصخب الصهيوني، والندب والعويل على شهداء البشاعة البشرية من اليهود، والذين اتخذ موتهم طابعا قدسيا، كما لو كانت ضحايا هتلر من اليهود فقط! وأنهم فقط أصحاب حق في القداسة، وأصحاب حق في جلد ضمير الدنيا بالسياط، ووسيلة لكسب التأييد المادي والمعنوي. وإذا كانت هذه الجريمة كما يقول خطاب شامير بسبب صحوة الضمير العالمي لإقامة دولة إسرائيل، فلا شك أن الخطاب العربي الفاشل، كان وراء خمود ذات الضمير أمام إبادة وتشريد الفلسطينيين! إضافة إلى العوامل الأخرى المتعددة، البعيدة عن موضوعنا هنا بشأن طبيعة الخطاب الصهيوني. لكنها على أية حال توضح لنا لماذا لم تقم دولة إسرائيل على أشلاء ألمانيا المنهزمة، وقامت في فلسطين؟
ثم يعمد الخطاب الصهيوني مرة أخرى إلى تشغيل المحور السيكولوجي، فبعد أن يعدد خطايا العالم في حق شعب الرب المختار، ويضع الضمير العالمي في حالة أرق، وشعور حاد بالذنب والخطيئة، فإنه يسارع متبرعا بتقديم العلاج النفسي والبلسم الشافي لذلك الضمير المعذب، حتى يكون الجميع ممتنين وشاكرين، فيربط الخطاب بين الاضطهاد النازي وبين الأشرار العرب الذين يكيدون للدولة الوليدة، ليضع النازي والعرب داخل إطار واحد، فيمتزج الشر العربي بالشر النازي، ويصبح العالم مسئولا تمام المسئولية إزاء الشروع في الجريمة الجديدة، وأن يمنعها قبل أن تقع، وعلى الإنسانية أن تقوم بواجبها إزاء ما يمكن حدوثه، وهو ما يلقى صداه مع العقيدة المسيحية التي تقبل بفكرة الضحية، مقابل الفداء والخلاص، أو بالنص الإنجيلي الذي يضع مشروعية رفع الخطيئة: «بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة.»
والضحية موجودة والحمد لله، وعلى الفلسطينيين أن يقدموا الفداء لخطايا العالم، ويرفعوا الإصر عن ضميره اليقظ؛ لأن المسيح نفسه، وهو الإله، قد تمت تضحيته على الصليب من أجل راحة ضمير البشرية ورفع الخطيئة عن بني آدم، فهل الفلسطينيون أحسن من الله؟
وهكذا تجد البشرية الغربية المتحضرة المعذبة، التواقة إلى التكفير عن ذنبها - لكن بعيدا عن جلدها - خروفا يذبح بدلا منها، لتعود لتلك النفس راحتها، واتزانها وتماسكها، وهو ما أجاد الخطاب الصهيوني صناعته على الدوام، وباقتدار. ومن ثم تبرز إلى جوار طبيعة الخطاب التي تستهدف الجانب النفسي، مع استثمار المعاني النظرية لمفهوم التحضر، التي لا بد أن تنفر من الاضطهاد بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة، طبيعة أخرى تستثمر البعد الديني. فاليهود لم يضطهدوا إلا لأنهم يهود، ويصبح من المنطقي ألا يطلبوا التعويض ممن اضطهدوهم بأرض في أوروبا، لسبب ديني بسيط معلوم، هو أن أوروبا ليست أرض اليهود، أو كما قال موشى ديان لصحيفة لوموند في 5 / 10 / 1971م: «بما أننا نملك التوراة، وأننا شعب التوراة، فلا بد أن نملك أيضا أرض التوراة.»
صفحه نامشخص