ولأن الجديد استبطن القديم، ولم يكن ممكنا التخلص نهائيا من دور الأنثى في البناء المعرفي، القائم على فرز مادي تاريخي عريق، فقد حملت الأنثى في ظل السيادة الذكرية قيمة ثنائية، فهي في لغة البداوة السامية (في العبرية مثلا) حواء، لكن الكلمة حفرت في تركيبتها ومفهومها جذر الحياة، وفي الوقت نفسه حملت الوجه الآخر الجديد فارتبطت حواء بالحية مصدر الأذى والشر، ولنلحظ الارتباط الجذري بين: حواء، حياة، حية، حيا أي «فرج»، والمرجح في ربطها بالحية ملاحظة البشر للحية تنسلخ من جلودها كل عام، فتصوروا أن الحية خالدة تجدد حياتها بهذا الأسلوب كل عام، فربطوها بالأنثى حواء مصدر الحياة المتجددة، ومع ذلك فإن الحية في المأثور التوراتي الأشهر، وهو قمة وتطور وخلاصة المأثور البدوي الذكري، ترتبط بالمرأة لكن في صيغة تبخيسية، فهي توعز لحواء بأكل الثمرة المحرمة في عالم الخلد، فيفقد الرجل الخلود بسببها، وتتحول المرأة عن منح الحياة إلى سلب الحياة، وفقدان الخلود، وعليها يجب أن يقع هذا الوزر إلى الأبد.
أما على مستوى القاعدة الاجتماعية، والشكل السياسي، وارتباطهما بالمنظومة المعرفية، في ظل السيطرة الذكرية، فقط ارتبط جميعه بخطوات تطورية سريعة تلاحقت بعد الغزو البدوي السامي للرافدين، فإن المشتركات الأولى ظلت تتمتع ببقايا الديمقراطية البدائية البدوية، وبمجلس القبيلة الذي أصبح مجلس المشترك الذي يختار الزعيم، لكن مع الاستقرار في البيئة النهرية، والتحول إلى الفلاحة، وما يفرضه النهر من تلاحم القوى البشرية للسيطرة على مجاري المياه الهائلة وتوزيعها، فإن ذلك فرض نوعا من الطوارئ المستمرة، التي أدت إلى استمرار مماثل في سلطة الزعيم، بحيث انتهى الأمر مع بقائه ببقاء الطوارئ إلى تسليمه كل ألوية وشارات القبائل المتبدية، ليتحول الشكل السياسي إلى المركزية الصارمة، وإلى توارث الزعامة في بيت الزعيم الملك، بعد دمج المشتركات الإقليمية في الدولة المركزية، بعد صراع مزمن بين تلك المشتركات، وهو ذات الأمر الذي حدث في عالم السماء، حيث تقول ملحمة الإينوما أيليش أن مجمع الآلهة الخمسين (ولا شك أنه يقابل مجلس القبيلة الأرضي، أو مجموعة الأقاليم) قد سلم سلطاته للإله مردوك، وأنهم قد اجتمعوا في السماء ومنحوه قدرة تغيير كل شيء، وخلق أي شيء، بمجرد النطق بالكلمة، تعبيرا عن السلطان المطلق الذي أصبح يتمتع به الملك الأرضي، وبعد أن أصبحت كلمته نافذة لا تقبل الإرجاء، حيث تقول الملحمة: «واجتمع الآلهة الخمسون، في أبشوكينو فرحين، وسلموا مردوك شاراتهم، وقالوا: من مثلك ملك، مر قطعة القماش الممزقة تلتئم، مرها ثانية تعود سيرتها الأولى.»
لكن الواضح في كل الأساطير الرافدية القديمة، أن تلك القدرة كانت بالقوة لا بالفعل، فهي قدرة مرجأة حيث كان الخلق يتم دوما بالفعل اليدوي، بل ويظهر في التوراة التي أقرت الخلق بالكلمة، لكن في كل مرة كان الرب يصنع مخلوقاته بيديه صنعا، مما يشير إلى أن الأمر قد تمت صياغته فقط لتبرير إطلاقية الكلمة السيادية على الأرض (راجع الإصحاحات الأولى من سفر التكوين التوراتي).
المرأة في المأثور الديني والأسطورة1
حريم وحرام
عندما نعتاد الأمر يتحول إلى بدهية، ولا نلتفت إلى تناقضه وهشاشة أسسه، وبمرور الوقت يصبح من أشد الأمور اختلافا بين الناس، بين من يدقق ويرفض منطق الاعتياد، وبين من اعتاده حتى اعتقد أنه بدهية.
ومن المعتاد - لكنه بالفعل ليس بديهيا - أن هناك متسلطا وهناك مقهورا، وأن للمستغلين مصالح تستدعي تزييف وعي المضطهدين (بفتح الطاء)، ويشهد التاريخ أن أشد الأدوات مضاء بهذا السبيل هي الأدوات الإيمانية، التي تلعب على الوجدان العاطفي للمتدين، ومن ثم تراهم ينفقون بسخاء وذكاء، على وسطائهم المحترفين من كهنة ورجال دين، ينشرونهم في كل مكان، يبثون الصبر، وينفثون السلوان، مبشرين بجزاء أيوب، يتتبعون أي تحرك واع ضد تزييف وعي الناس، ينقضون على كل رأي أو سلوك أو حتى كلمة أو فكرة، فربما ثقبت الكلمة الجدار السميك للجهل المنشور، الذي يمنع المضطهد من الوعي بحاله وبوضعه في المجتمع.
ولأن تطور المجتمع البشري لم يصل بعد إلى الوضع الإنساني اللائق بكرامة الإنسان، فإن الظرف الاجتماعي الحالي لازال يسوغ القسمة الطبقية الصارخة بين الناس، طبقات، طوائف، أجناس، دائما هناك الأقوى والأضعف، المفترس والفريسة، القاهر والمقهور.
وربما أبرز نماذج تلك القسمة اللاإنسانية، وتشكل وصمة عار كبرى في تاريخ البشرية، ذلك الذي حدث منذ استولى الذكر على مقدرات المجتمع البشري، وأزاح الأنثى من البؤرة إلى الهامش، ليصوغ مجتمعا ذكوريا أسس لأبشع أنواع التفرقة العنصرية داخل الجنس الواحد، ففرق بين طرفي حياة لا تكتمل الحياة دون التقائهما جنسا وجسدا وروحا وتكاملا إنسانيا.
والتاريخ يؤكد أن الشرق كان هو المؤسس لذلك التقسيم العنصري الطبقي في آن معا، ولم يزل، ومن يومها تتعزى المرأة الشرقية بالصبر والسلوان الفقهي، وتبلسم جراحها بخطابات منبرية، تؤكد لها أنها في مكان التكريم بين نساء العالمين، تتعزى صبرا في عالم الأرض، وصبرا في عالم السموات، في الدنيا وفي الآخرة. وإن أحسنت أيمانها وأحصنت فرجها وأمتعت زوجها وسيدها، دخلت يوم الدينونة ضمن حريم السيد المؤمن الذكر في جنة رضوان، ذلك الحريم الذي تبدأ أعداده من السبعين لتصل إلى الملايين في بعض الأحاديث المنسوبة للنبي.
صفحه نامشخص