ودعنا من سائق السيارة يضرب بجهد سرعته في زحمة الناس؛ إذ هو مقبل بالحديث على من بجانبه أو مول ظهره وجه الطريق، مستغرقا في الحديث مع من في داخل العربة.
هذا كله معروف مشاهد لا نرى محلا للإطالة فيه وإقامة الأدلة عليه، وما لهذا سقنا الحديث، إنما سقناه لهذه الكثرة الكثيرة التي لا يحلو لها السعي إلا في وسط الطريق برغم احتشاده بالمهلكات المتلفات.
ولقد يلتمس ملتمس لهؤلاء عذرا بأن الطوارات - الأرصفة - في القاهرة أكثر حفرا من وسط الطريق، فهي أدنى إلى عثرة القدم، ولعل آخر يلتمس العذر في أن طواراتنا دائما أشد وساخة وأكثر قاذورات من عرض الطريق، وهذا - مع الأسف العظيم - ما لا أحسبه يقع في بلد آخر! وكيفما كان الأمر، فإن هذا وهذا لا يصلح عذرا للتعرض على هذه الصورة لكل ذلك البلاء المحيق!
وإذا تمثلنا هذه الكوارث التي تقع كل يوم في شوارع القاهرة وجوادها، فإن من الظلم الواضح أن نضيفها كلها إلى جنون السائقين أو إلى عجلتهم أو إلى قلة كفايتهم، بل إن من الإنصاف أن نفرض قسطا كبيرا من أسبابها إلى أولئك الساعين على الأقدام، وإلى أولئك الذين يحجلون بالدراجات في مزدحم الطريق.
وبعد، فلعل بعض قراء «الثقافة» ما برحوا يذكرون أنني ختمت مقالي السابق «في التليفون» بالابتهال إلى الله - تعالى - أن يعلمنا كيف نمشي في هذه الطرق الحافلة بأسباب الدوس والصدام، كما يعلمنا في التليفون القصد والدقة وأدب الكلام، والآن أعرض نماذج مما يجري في طرقاتنا وبعضها مما «يشيب الطفل من قبل المشيب».
ولقد عرفت بل لقد رأيت إن كنت من سكان القاهرة أو ممن يغشونها كيف يهجر الساعون مع أقدامهم الطوارات، ويتدفقون في عرض الطريق تدفقا، ما يبالي أكثرهم ما عسى أن يعتريه من قدامه أو من وراء ظهره، أو من يساره، أو من يمينه من تلك الفواتك بالأعمار والمفرقات للأعضاء، والمحيلات للأجسام الصحيحة في لحظة أشلاء بجانب أشلاء؟
ولقد ترى الماشي بين شريطي الترام وهو يسمع دويه وراء ظهره، إذ السائق جاهد في دق الجرس وموالاة هذا الدق، وصاحبنا لا يعدل ولا يتحول كأنه استحال هو أيضا تراما لا يستطيع السير إلا على الشريط، وفي اللحظة الأخيرة؛ اللحظة التي يعقبها البلاء الفاتك، يسمح حضرته بالتحنس في تثاقل عظيم ثم تراه يعود إلى سبيله وهكذا ...
وكثيرا ما ترى ناسا يمشون في يمنى الطريق وتقبل السيارة في جريها من ورائهم، والسائق ينبههم جاهدا إلى إخلاء السبيل بالاعتصام بالطور، أو على الأقل بالمشي بجانبه؛ ينبههم جاهدا بالبوق مرة، و«بالكلاكس» مرة، فلا يسمعون ولا يحفلون؛ إذ السائق المسكين أحيانا بين ثلاث: إما أن يسرع إلى وقف السيارة فجأة، وقد تنقلب في هذه الحالة وخاصة إذا كانت مسرعة، وفي ذلك هلاكه وهلاك من معه من الراكبين، وإما أن يعدل هو عن الطريق مفاداة لهذه العمد الساعية على الأرض، وقد يصطدم بجدار أو حامل مصباح، أو يدوس من لا جناية له من السائقين، وإما أن يتوكل على الله ويدوس في طريقه من يدوس من هذه العمد، ولعل هذا أرفق الحلول إذا لم يكن من إحدى تلك الحالات الثلاث محيص؟
ولقد أذكر أنني كنت ذات صباح شاخصا إلى الجيزه، فإذا الترام مزدحم جدا، وأكثر زاحميه من الطلاب الذاهبين إلى مدارسهم ومعاهدهم هناك، فلم أصب لي مكانا إلا وقفة بجانب السواق، ولم يرعني ونحن في بعض الطريق إلا أن أرى رجلا مقبلا على الترام من قدامه، وقد تحرى المشي بين الشريطين، والسائق يجهد في دق الجرس له، وهو لا يعدل ولا ينحرف ولا ينثني، حتى إذا اقترب منه الترام - أو على الأدق - حتى إذا اقترب هو من الترام اقشعر جسدي ووقف شعر رأسي؛ فأسرعت إلى المفتاح. ورجعته في عنف ليقف القطار، فالتفت إلي السائق وقال لي في شيء من الغضب: ما الذي دعاك إلى هذا؟ قلت له: ألم تر كيف أن الرجل كان عازما على أن يدوس القطار في غير إشفاق؟! فاشكر لي أن نجيتك كما نجيت نفسي وسائر الركاب من هذا الخطر العظيم!
أما الذين يحاولون قطع الشارع من العبر للعبر، فأولئك شأنهم أعجب وأغرب، وصنيعهم ألذ وأطيب، ومن الظواهر التي تسترعي للنظر حقا في هذا الباب أنك تجد هؤلاء دائما مستعجلين جدا وشجعانا مقاديم، لا يهابون أشنع الموتات في سبيل ... لا شيء مطلقا من الأشياء!
صفحه نامشخص