اللهم إن الحملات التي تحتاج إليها بلادنا أشد الاحتياج إنما هي حملات اجتماعية بحتة لا صلة لها بالحرب، ولا سبب لها إلى الحزبية ولا الأحزاب.
نحن ألقينا حربا أم لم نلق حربا محتاجون إلى الإصلاح في شتى نواحي الحياة، وإذا كان توقع الحرب والاستعداد بكل ما في الطاقة للحرب لم يلفت نهضاتنا العظيمة عن التطلع إلى كثير من النواحي، ولم يثن القائمين على الإصلاح عن معالجة ألوان من المشروعات، قصدا إلى الإصلاح المنشود، والحقيق بأمة تتوثب للمجد توثبا وتبقى الحياة كما ينبغي أن تكون الحياة، إذا كان هذا هكذا، فإن من الحق علينا ألا نغفل أولا وقبل كل شيء حقيقة ثابتة؛ هي أساس كل بناء وجوهر كل إصلاح، وهذه الحقيقة هي الثقة، فإذا لم تكن ثقة فلا بناء ولا تعمير ولا إصلاح ولا فلاح.
وأحوج ما يحتاج إلى بث الثقة وعقدها في النفوس هي بلاد الريف على وجه خاص.
وبعد، فأنت خبير بأن أي علاج بعمل أو بتشريع يراد به إصلاح شأن الجماعات، ورفع مستواها العقلي والخلقي، والحط من أعباء تكاليف العيش عنها، وإيتاؤها حظا من أسباب السلوى والرفاهية لا يمكن أن يؤتي ثمرته ناضجة أو فجة في بعض الأحيان إلا إذا تعاونت عليه الجماعة، ولا يمكن أن تتعاون الجماعة على عمل ما إلا إذا سادت الثقة. ثقة الأفراد بالأفراد، وثقة الأفراد بالجماعة، وثقة الجماعة بالمجموع، وهذا كلام بديهي لا يحتاج إلى نظر واستدلال على تعبير أصحاب المعقول، وإلا فكيف يتهيأ للأفراد أن يتعاونوا على خير يعمهم، ويعود على شملهم، في حين لا يثق أحد منهم بأحد ولا يقدر فيه صدق النية، ولا رغبة الخير لغيره فردا كان أو جماعة؟
وهنا أرى من واجبي الوطني أن أصارح بحقيقة مؤلمة، ولكنها هي الحقيقة، الحقيقة الواقعة، التي لا يجدي في زوالها تجاهلنا، تخففا من ألم الشعور بها أو تظاهرا بالوطنية المزيفة المزورة، هذه الحقيقة هي أن حكم الاستبداد والظلم الذي خلت به القرون الكثيرة، قد طبعته على سوء الظن وفقدان الثقة، سواء بالأفراد أو بالجماعات أو الحكومات، ولذلك تراه شديد الحذر في غير موضع لأي حذر، حتى لقد يستشيرك في بعض شأنه، فتشير عليه بالرأي صادقا مخلصا، فيعدل فوره إلى عكسه لأنه لم يقدر فيك إلا غشا وخديعة وكيدا، إذن فالخير كله في العدول إلى ما نهيته عنه وحذرته منه.
ولا شك في أن أبلغ ما يقعد بالفلاحين المصريين عن التعاون على ما يجديهم، ويدفع الأذى عنهم ويعود بالخير الكثير عليهم، هو فقدان الثقة بينهم، ولقد تراهم يساهمون في أعمال تعاونية، ولكننا نكون كذابين وغشاشين، ومدافعين لكل إصلاح اجتماعي يراد إذا زعمنا أنهم يخفون إليها من تلقاء أنفسهم، أو بباعث من شعورهم وتقديرهم لما فيها من نفع وخير، ولكن فتش عن العمدة ثم فتش عن المأمور، ثم فتش عن المدير، ولعلك محتاج إلى التفتيش أيضا عما وراء المدير!
ولعلي في غنى من إيراد الأمثلة على هذا، فهي من الكثرة والحضور بحيث يعد إيرادها ضربا من العبث ليس فيه غناء!
على أنني أروي في هذا الباب حكاية لا تخلو من تفكيه، أرى القارئ محتاجا إليه بعد كل هذا الجد الأليم، وهو على كل حال من باب «وشر البلية ما يضحك» ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
من ثلاثين سنة أو تزيد قليلا بدا لبعض مديري الأقاليم، أو أنه في أغلب الظن قد أوعز إليه بعض السلطات العليا أن يدعو من قبله من الأهلين إلى المساهمة في عمل ذي صيغة اقتصادية، تغل المائة من رأس ماله أربعة في العام، ويلح المدير كما هي العادة على مأموري المراكز، ويلح هؤلاء على عمد القرى، ويلح هؤلاء على الأهلين ولم يكن في يد هؤلاء فاضل من مال إذ لم تكن السنة سنة رخاء، فماذا لعمري يصنعون ليتعاونوا على هذا الخير الاقتصادي العظيم؟
اللهم لا حيلة لهم إلا في أن يعوذوا بالمرابين، فيقترضوا منهم المائة بخمسة عشرة، وبعشرين، وبثلاثين؛ ليثمروها في هذا المشروع المبارك الذي تغل مائته في العام الأربعة لا تزيد!
صفحه نامشخص