هذا الإصلاح الذي يطبع الفلاح والعامل على إدراك ما ينفعه وما يضره ويستكرهه استكراها؛ بدافع من نفسه لا بقوة خارجية، على ترك ما ألف من مكروه العادات، ولو كان هذا الإلف إرثا منحدرا من ألوف السنين.
وأخيرا، هذا الإصلاح الذي يشعر الفلاح والعامل، أو في الشعور أنه عضو بكل معنى الكلمة في هذا المجتمع، لا خير له إلا في خيره، ولا سعادة لشخصه إلا بسعادته، يشعره أنه عضو حقا في هذا المجتمع، ويملأ قلبه إيمانا بأن عضوا من الأعضاء لا يمكن أن يكون صحيحا إذا كان البون معتلا سقيما.
فإذا جرى هذا الإصلاح في طريقه وسلك من النفوس مسالكه، فحينئذ لا يخشى أن يقاوم الفلاح أو العامل ما يراد لعيشه من حماية وترقية وإسعاد، بل لا يخشى أن يعتل على هذا أو يتثاقل عن الاستجابة لدعوة العاملين المصلحين، بل إنه ليرجى حينئذ أن يطلب الإصلاح جاهدا إذا أبطأت عنه رسائله وإنه ليعين على تحقيقه بكل ما يمتد إليه عزمه، بل إنه ليوجه السعي في الحياة. أو يوجه صدرا عظيما من السعي في الحياة إلى ما يجدي المجموع، وأن كل خير يصيب هذا المجموع هو خير له، ولو لم يعد على شمله من الجهة المادية بكثير ولا قليل!
وبعد، فلقد يأخذك أشد العجب إذ ترى بلادنا - والحمد لله على السراء - سباقه إلى اقتباس أحسن النظم في أكثر مرافق الحياة، وسن أحكم القوانين وأدق اللوائح، ووضع أجل المشروعات في مختلف نواحي الإصلاح، مما من حقه أن يكفل لنا الأمن، والدعة، والرغد، والغنى، ورفع المستوى العلمي والثقافي، وتحريك الأيدي المعلقة، ومنع التشرد والتسول ... إلخ. مما لا تطمع أمة على ظهر الأرض في مزيد عليه، أو تتطلع إلى سعادة تتراءى وراءه، ومع ذلك فنحن نحن والحمد لله على الضراء، لا نكاد نتزحزح في شيء أو نريم.
سر هذا في مذهب الأستاذ دياب أن الإصلاح لا يجدي إلا إذا تهيأت لتقبله النفوس، بحيث يتلقاه الجمهور راضيا مغتبطا.
وهذا حق لا ريب فيه، على أن هناك علة جوهرية تتقدم هذه العلة وهي التي أقيس عليها بقية الكلام، وهذه العلة هي أن الخمسين أو الستين عاما؛ التي عشناها محرومين السلطان، معفين من الاضطلاع بالعظائم مقالين بالضرورة من احتمال التبعات، هذه السنون الطوال التي عشناها عيشا آليا أضعفت فينا الشعور الحق بالواجب إلى حد كبير!
نعم، لقد أضعفت فينا هذه السنون الشعور الحق بالواجب إلى حد أن أصبح العامل منا إذا عمل، سواء في الأسباب العامة أو الخاصة لا يكاد يشعر بأنه يؤدي واجبا، وإنما يسوقه إلى علاج ما يعالج خوف المسئولية وحسبان العواقب المادية، وكذلك جعل سعينا يتحول إلى الأشكال والأوضاع، ما دامت هذه الهياكل تسقط عن المرء التكاليف! أما اجتماع النفس، وحد العزم، وتجريد الهمة لإدراك الأغراض، وإصابة الأهداف التي شرع لها المقنن ما شرع، وأعد لها المصلح ما أعد، فلقد صرنا من ذلك أبعد ما نكون.
الأمر كله لا يزيد عندنا مع الأسف العظيم على ملء الاستمارة، أو سد «الخانة» أو «تخليص القلم» كما يقولون، وعلى ذلك يستحيل كثير مما نعد من وسائل الإصلاح هياكل لا يدب فيها شيء من الحياة، ولأضرب لك يا سيدي القارئ بعض الأمثال، لا أعدو فيها ما يقع لسمعك وبصرك في كل صباح وفي كل مساء.
تصدر الأوامر المشددة إلى رجال البوليس بمنع التسول في الطريق، وكف الغلمان المشردين من جامعي الأعقاب ونحوهم، فإذا الشرط يجدون ويجهدون، حتى تكاد تشعر بأن القاهرة مثلا قد خلت من كل متشرد أو شحاذ، وقد تظل على هذا الشعور أياما، وقد تظل كذلك أسبوعا، ثم إذا المتسولون والمتشردون يظهرون لعينيك رويدا رويدا، وهم يقومون بمهمتهم الشريفة بعين جندي البوليس.
ذلك بأن رئيسه كان يشدد عليه ويطالعه الحين بعد الحين، فلما فتر عنه فتر هو الآخر عن الآخرين.
صفحه نامشخص