طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى .
2
وقد انصقل بقراءة الليل صوته، وحلا نبره، وسلس له منه ما كان جامحا، ولأن ما كان في أول الليل عاصيا، وأطلقه في آي السورة الكريمة أبيض ناصعا كأنما صبغ من ذوب الفضة، أو كأنما اعتصر من صفحة البدر ليلة تمامه، لقد أسمعه في سورة طه كل ليلة، وفي كل ليلة يخيل إلي أن جبريل ينزل من جديد، بسورة طه على محمد
صلى الله عليه وسلم
وهو يجول في فنون النغم فارسا خلا من هيبة الميدان، وتوارى الكماة خشية الضراب والطعان، ولا يزال كذلك حتى يملأ الآذان طربا، ويشيع في النفوس ما شاء الله أن يشيع من لذة وأريحية وفرح حتى إذا كان من مطلع الفجر على دقائق، نهض فوقف على الدكة، وصاح في مقام الست بأعلى صوته، «يا أمة خير الأنام ومصباح الظلام، ورسول الله الملك العليم العلام، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.»
وهنا يطمئن الشيخ اطمئنانة قصيرة، أرجو ألا تحسبها استراحة من ذلك الجهد العنيف، وإنما هي استجمام للجهد الأعنف، أستغفر الله؛ أرأيت إلى الليث كيف يجتمع للوثاب؟ وكذلك كان الشيخ - عليه رحمة الله - فسرعان ما تراه قد وقف على أصابع رجليه كأنه يريد أن يطول ما لا يطال، ويستأنف الدعاء: «وأدخلنا وإياكم الجنة.» فإذا صارت إلى حلقه كلمة «إياكم» يجعل يرتفع في مد «الياء» ثم يرتفع؛ ثم يرتفع ثم يرتفع، متحديا ما رسم أصحاب الفن لنهايات الأصوات في سموها، إذ الناس شاخصون بأبصارهم إلى السماء لينظروا مشدوهين إلى أي مدى يبلغ الشيخ، حتى إذا جاز هذه الطبقات جميعا، وبلغ «الجنة»، زر حلقه على نونها فعصرها عصرا شديدا، وكأنه لا يتكلف في هذا الجهد المهول شيئا حتى إذا بلغ هذا المدى خيل إلى الناس أنهم والمسجد الذي يضمهم بأرضه وسمائه، وعمده ودككه ومنبره ومقاصيره، قد ارتفعوا كتلة واحدة حتى وصلوا إلى جنة عدنان، ونالوا أعظم ما ينال مؤمن من الرضوان!
ثم يهوي من فوره إلى القرار فيقول: «بمنه وكرمه وجوده، دار السلام بسلام» ثم يعود إلى محلقه فيصيح: «طلع الفجر!» الله أكبر! الله أكبر! ماذا صنعت لعمري أيها الشيخ؟ لقد رن رنة ملأت الآفاق جميعا، حتى لو أنه أطلقها في غسق الليل لانفجر من حلقة الفجر، ولحق على المؤمنين أن يخفوا لصلاة الصبح، وما شاء الله كان!
ثم هتف في صوت هادئ وادع: «فاستقبلوا الآن واستمعوا الأذان بعده ...» ثم أذن للصلاة ...
هذه بعض الأنوار التي كانت تموج فيها ليالي رمضان حسا ومعنى، ولست أحب أن أقارن بين ما كان يكون في ذلك الزمان، وبين ما صارت إليه ليالي رمضان في هذا الزمان، إنما قصدت إلى العبرة في المقارنة بين أضواء ليالي رمضان في عصر الشمع والكيروسين وبين لياليه في هذا العام؛ أي في عصر الغاز والكيروسين والكهرباء.
لا يخيم الليل حتى يكاد يستحيل ما بين آفاق الأرض منجما من مناجم الفحم، ظلمة وسوادا، وعالم كأنما قد غط في المداد، لإعلان أبشع ألوان الحداد.
صفحه نامشخص