171

هذا الفن الذي لا يفتأ يتطلع إلى التجديد الرفيق، لا ينشز على الآذان ولا تأذى به الأذواق، وناهيكم بصنعة عبده وعثمان والمسلوب وأضرابهم - عليهم رحمة الله أجمعين.

وبعد، فالحق إننا الآن في حال من البلبلة واضطراب الأذواق هي في أشد الحاجة إلى مبعوث للموسيقى جديد، فليت شعري هل يطول بعثته على الزمان؟

بلاغة التلحين

كنا وما برحنا نشكو من هذه التطرية التي لحقت الغناء المصري في السنين الأخيرة، بل لا غرو علي إذا قلت عن شيوع التخنيث في هذا الغناء، لا نستثني على ذلك نظم المقطوعات الغنائية في بعض الأحيان، ولا تلحينها في كثير من الأحيان، ولا أساليب أدائها في أكثر الأحيان.

تسمع المغني وكأنك تستمع إلى أنين عليل أو جريح أو حشرجة محتضر إذا استثنيت الصرخة الإفرنجية الأخيرة التي لا بد من أن تختم بها الأصوات في هذه الأيام، ولعلها الصرخة الأخيرة التي تشبه من المحتضر إيماضته الخمود!

ذل، وتوجع، وتميع، وتسايل، وتزايل، واسترخاء لا يليق بامرأة فضلا عن صدوره من الرجال!

ومن العجب العجيب أنك لا تجد أثرا مطلقا لهذا التخنيث في غناء مغنياتنا، وأعني مغنيات الطبقة الأولى - على وجه خاص - فإن غناءهن تشيع فيه القوة والرجولة، اللهم إلا ما يستكرهن عليه بعض السادة الملحنين! أما التميع والتزايل، فأكثر ما تجده الآن في أغاني الرجال، ومن أعجب العجب أن يكون صوت المغني بطبيعته قويا شديد الأسر، فيأبى هو إلا أن يتكلف تطريته وإلانته، يحبس جوهره في الحلق، وصوغ صوت له من سقف الحنك، ولا يذهب عنك أن الأصوات مما يمكن أن يصنع ويصاغ، وكذلك يتهيأ للمغني أن يلين ويسترخي ويسيل، وإنني أؤكد لك يا سيدي القارئ أن أكثر من تسمع الآن من هذا الضرب من المغنين، إنما يتنغمون بأصوات مستعارة لا بالأصوات الطبيعية التي تجري في الحلوق!

وأرجوك، ألا تعجل بلوم محطة الإذاعة ولا بلوم هؤلاء المغنين، فهم إنما يواتون نزوة تعتلج في الصدور في هذه السنين مع الأسف الشديد ولست أكتمك أنني من بضعة أسابيع سمعت نشيدا حماسيا جعل رئيس الجماعة يتكسر في إنشاده، ويتزايل في إلقائه، ويلين من صوته، ما أسعدته القدرة على التليين حتى لقد ظننت في أول الأمر أن هذا النشيد «الحماسي» إنما يغنى لحث الجند على الفرار! لا لحثهم على الإقدام لولا ما فطنت إليه أخيرا من أنه لا يصلح لهذا أيضا؛ لأنه يرخي الجوانب ويخذل الشوق، وهيهات لمنخذل الساق الفرار! وكل هذا إنما يتكلفه المغني مطاوعة لذلك الطائف الكريم.

وبعد، فإذا كان هذا سائغا فيما خلا من الزمن وهو غير سائغ في أمة من الأمم، في أي زمن من الأزمان، فإنه على كل حال غير سائغ في هذا الوقت الذي نستنفر فيه الشباب لحمل السلاح.

ليس سائغا البتة في هذا الوقت الذي ندعو فيه الأمة شيبها وشبابها، رجالها ونساءها وأطفالها إلى الحياة العسكرية التي لا تعرف ترفا ولا لينا، حتى تستطيع أن تلقي الشدائد مهما يكن لونها، بالصبر والقوة والعزم الحديد.

صفحه نامشخص