لو طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى «المطلق» الذي يحدثني عنه، كان أقل ما يعترض به علي، هو أن ما يشار إليه إنما يكون في مكان معلوم وزمان معلوم، أما «المطلق» فلا مكان له ولا زمان، وإلا لما صح وصفه بأنه مطلق من كل قيد. كيف إذن عرفته يا صاحبي؟ إنك لا تعرف إلا الأشياء ذوات المكان المعين والزمان المعين، أم وهبك الله بابا من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي؟ أليست حواسي وحواسك سواء؟
لا، لا، يا صديقي - هكذا أتصور المجيب قائلا - ليس الأمر هنا موكولا إلى الحواس من عيون وآذان وأصابع، بل الأمر طريقه «الحدس» أو العيان العقلي المباشر.
هذا جميل، ولست أريد أن أضيق عليك ما قد وسعه الله لك فأدرك بحدسك هذا آفاق السماء ما استطعت؛ لكنك الآن تحدثني أنا بما قد أدركت، وإذن فمن حقي عليك أن تترجم إدراكك هذا باللغة التي أفهمها، أنا الذي لم يهبني الله ما وهبك من «عيان عقلي مباشر»، فإن استطعت كان عيانك العقلي هذا اسما آخر على ما أسميه أنا الإدراك بالحواس، وإن لم تستطع كان عليك أن تصمت، أو كان لي أن أسد أذني فلا تسمع؛ إذ ما غناء موجة صوتية ترسلها شفتاك لا تدلني على شيء مما أفهم؟
إن كلمة «المطلق» لها معناها الذي اتفقنا عليه، فإن سألت الخادم: أربطت الكلب إلى سلسلته أم تركته مطلقا؟ وأجابني الخادم: بل تركته مطلقا. ارتسمت عندي صورة لما وقع، وفي مستطاعي أن أراجع الخادم فيما يقول، فأبحث عن الكلب لأرى أهو على الصورة التي رسمها لي الخادم أم هو على غيرها، وإن سألت التاجر: أأسعار الفاكهة مقيدة بتسعير رسمي أم هي مطلقة؟ ثم أجابني بأنها مطلقة، فقد رسم لي صورة أستطيع أن أراجع الأمور الواقعة لأتبين أصدق في رسمه لصورة الواقع أم كذب.
هذا هو معنى «مطلق» كما اتفقنا، فيجيء فيلسوف ميتافيزيقي ليزعم «أن المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.» فلا يكون لعبارته معنى، لأنه استخدم لفظا متفقا على معناه في غير السياق الذي يحفظ له ذلك المعنى، وإلا فحدثني ماذا عساي أن أجد في ظواهر الطبيعة كلها مما يثبت هذا القول أو ينفيه؟ هبني قلت لذلك الفيلسوف: لا، بل ليس يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه. أو قلت له: لا، بل المطلق نفسه يتعرض للتطور والتقدم. فما الذي يتغير في صورة الكون بين حالتي الإثبات والإنكار؟ إن الكلام إذا كان له معنى مفهوم، يستحيل ألا يكون هناك في عالم الأشياء الواقعة فرق بين إثباته ونفيه؛ فالفرق واضح بين قولي: «إن الكلب مطلق.» وقولي «إن الكلب ليس مطلقا.» وما دمت أدرك كيف تتغير صورة الأشياء بين حالتي نفي القول وإثباته، فالقول ذو معنى مفهوم، وإلا فهو فارغ لا يدل على شيء.
5
كلام الميتافيزيقي فارغ من الدلالة والمعنى؛ لأن كل عبارة منه إثباتها ونفيها سواء من حيث ما تكون عليه صورة العالم. إن اعتراضنا على العبارات الميتافيزيقية لا يقوم على أساس خطئها في ذاتها؛ لأننا لو قلنا إنها خطأ، كان معنى ذلك أنها تصور شيئا، وغاية الأمر أن الصورة لا تطابق ما يجري هناك في الخارج، بل اعتراضنا قائم على أساس أنها ليست بذات معنى على الإطلاق من الوجهة المنطقية؛ إنها لا تكون خطأ ولا تكون صوابا؛ لأنها لا تصور شيئا، وهي لا تصور شيئا لأنها قد استخدمت الألفاظ اللغوية استخداما يخرج على القواعد التي اتفق الناس عليها لكي يجيء كلامهم مفهوما مقبولا.
لقد سبق «كانت» إلى القول باستحالة الميتافيزيقا، لكنه بنى تلك الاستحالة على أساس آخر، بناها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات؛ وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية عنده، حقيقة واقعة، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي الذي أناصره؛ هي عند «كانت» حقيقة واقعة بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه في إدراكه للأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة؛ هي مستحيلة الآن لأن العقل الإنساني لم يخلق لإدراكها، كما لم تخلق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة؛ إنها أقوال لا تدل على شيء إطلاقا، بحيث يجوز لنا أن نسأل أيمكن حقا أن يدرك الإنسان هذا الشيء أم لا يدركه.
أئذا قال لك قائل: «إن الإسكبرانوس يدخل في تطور العالم وتقدمه لكنه هو نفسه لا يتطور ولا يتقدم.» - حين يكون «الإسكبرانوس» رمزا ملفقا لا معنى له - جاز لك أن تقول: إن عقلي قاصر عن إدراك ذلك؟ كلا؛ فرفضك لمثل هذه العبارة إنما يقوم على أساس أن هذه الرموز التي وضعها صاحبها في هيئة العبارة اللغوية، ليست هي من العبارات اللغوية في شيء، وبالتالي وجب منطقيا حذفها ؛ إنها ليست خطأ كما أنها ليست صوابا، لأن الوصف بالخطأ أو بالصواب لا يكون إلا للعبارات المقبولة من ناحية الاتفاق اللغوي أولا.
إنك إذا زعمت للعقل الإنساني حدا لا يستطيع أن يجاوزه، ثم زعمت في الوقت نفسه أن وراء ذلك الحد «أشياء» هي فوق إدراكه، كنت تناقض نفسك بنفسك؛ لأن اعترافك بوجود تلك «الأشياء» وراء الحد المزعوم، هو في ذاته دليل على عبورك إلى المنطقة المحرمة، ومثل هذا النقد نوجهه إلى «كانت»، الذي جعل استحالة المعرفة الميتافيزيقية مسألة سيكولوجية لا منطقية؛ إذ إنه يجعل الاستحالة متوقفة على قدرة العقل وعدم قدرته، أما أصحاب الوضعية المنطقية فرأيهم في هذه الاستحالة هو أنها قائمة على أن أقوال الميتافيزيقا تفقد الشروط الأولية للغة التي يمكن فهمها، وإذن فهي مرفوضة منذ البداية على أساس منطقي، ولا شأن هنا لقدرة العقل أو عدم قدرته.
صفحه نامشخص