فصاح المسافر بفروغ صبر: لا أسألك عن هؤلاء، بل عن عائلة أيوب حسون البحمدوني.
قالت المرأة: هؤلاء ماتوا كلهم من زمان طويل.
4
فما تمالك الرجل أن اندفع إلى خارج الدار، كأن به مسا وصاح بصوت اليأس: رباه أو ماتت هي أيضا؟ أنيسة ماتت؟ ويلي فإني لا أسمع غير هذا الجواب «مات، ماتت» ولست أجد في بلادي من يعرفني ولا ترمقني عين صديق.
قال هذا وأخذ يمشي على غير هدى يوسع الخطى، ولا يدري أين يؤديه المسير، فما كان منه إلا أن وصل بعد هنيهة إلى المقبرة بجوار الكنيسة، فنظر مليا إلى منازل الأموات وهو واجم، ثم تنهد الصعداء وقال بصوت خافت: هنا عند خروجنا من الكنيسة قامت معي أنيسة على قبر أمي، وعاهدتني أنها تثبت على ودادي وتصبر إلى يوم رجوعي، فقبلت عربونا مني صليب فضة ... ما أنكد حظك أيتها الفتاة، أنا سافرت إلى دار الغربة وأنت انتقلت إلى عالم الأموات، فلم يسعدني دهري بأن اجتمع بك بعد مر الفراق ... وما أدراني أني لست قائما على قبرك أدوس ثرى لحدك؟
فما أتم هذا الكلام حتى خارت قواه فسقط على بلاطة ضريح وقد بلغت روحه التراقي، ثم أجال طرفا عليلا في أكناف المقبرة فساءه حالها؛ إذ رأى كل قبر فيها عبارة عن ركام حجارة، وتمنى لو جرت في بلده عادة استحسنها في الأقطار الغربية، وهي أن تنصب الأم صليبا على ضريح ولدها رمزا إلى الرجاء، ويشيد الابن فوق تربة والديه أثرا يعلن بره بهما، ويزين الصديق لحد صديقه بالرياحين والزهور دليلا على حفظ الوداد، وكان قبل سفرته وهو حدث يتردد إلى المقبرة ليزور رمس والديه ويقدم الصلاة لراحة نفسيهما، فلم يعد يهتدي اليوم بعد رجوعه إلى قبريهما.
وكانت المقبرة ساعتئذ قفرة لم يزرها أحد عند الهاجرة فخلا له الجو، لبث شكواه وبعث نفثات الصدر وسجم الدموع السخينة.
وفيما هو على تلك الحال يفكر في زوال هذه الدنيا وأهوال الموت وغوامض الأبدية، إذ طرق مسامعه وقع أقدام، ولم يكن القادم سوى الحفار الشيخ قد جاء حاملا مجرفة ومعولا، وكانت هيئته الرثة تنبئ على فقره وصروف الزمان قد حنت صلبه وأشعلت رأسه شيبا، وجعدت وجهه، إلا أنه لم يزل بعد برق النشاط يلمع في عينيه.
فما وقعت عين المسافر على هذا الشيخ إلا عرف منه خصمه القديم فارسا عبودا، وهم أن يطير إليه لو لم يثبطه عن مرامه ما نابه من الفشل إلى ذاك الحين، فلزم مكانه ليرى إن كان يعرفه فارس.
فوقف الحفار على بعد خطوات منه، وتأمله برهة، ثم أخذ يرسم في الأرض شكلا مربعا مستطيلا؛ ليحفر هناك قبرا جديدا، ولم يكن عمله ليشغله عن مسارقة النظر إلى الغريب، فما لبث أن لاحت على وجهه أمارات سرور منكر.
صفحه نامشخص