وفي تلك الأثناء كانت أنيسة ساكنة عند أحد الجيران المسمى ناصرا، فاتفق أن ابنه عاد من مصر مصابا بمرض العيون، وما مضى على رجوعه خمسة عشر يوما إلا بلي بالعمى، وكانت أنيسة ترثي لحاله، فتسهر عليه في مرضه، وتعتني به وتلازمه رحمة به، حتى انتقلت إليها العدوى وفقدت البصر ...
ثم مات ناصر وسافر أولاده، فطلبنا حينئذ من أنيسة أن تسكن معنا، ووعدناها أننا نحبها ونخدمها طول العمر فقبلت طلبنا، فأحلف لك يا خواجا أنه مضى عليها في بيتنا أكثر من خمس سنوات، ولم نتكلف عليها شيئا، وليس لنا في ذلك أدنى فضل، فهي لطيفة، رقيقة، قنوعة، وحياتك يا خواجا، إنها قديسة حقا، ويكفينا أن نلقي إليها النظر حتى نحتمل بصبر كل أكدار المعيشة ونصنع الخير، فأولادنا يحبونها حبا شديدا، ويكرمونها كما يكرم عبيد الله، وتراهم يتسابقون إلى خدمتها، ويتنافسون لعمل ما يرضيها ...
فتنهد المسافر، وقال بحسرة: أنيسة تتسول؟!
فتوهمت المرأة أنه يوجه إليهم اللوم، فقالت: نعم، إنها تتسول يا سيدي، على أننا لسنا المذنبين، فلا يخطر ببالك أننا نسينا فضل أنيسة علينا، وكنا نحب أن نقاسي الجوع كلنا ولا تخرج للاستعطاء، ولكن ما الحيلة، فإننا بذلنا جهدنا حتى منعناها التسول، فامتنعت مدة حتى كثر عدد أولادنا، فافتكرت أنيسة أن وجودها يثقل علينا، وطلبت أن تسعفنا بطريقة من الطرائق، فلم تجد وسيلة، فحزنت جدا حتى مرضت، فأخذت تبكي وتطلب إلينا أن نسمح لها بالتسول، فلم نر بدا من إجابة طلبها.
وعلى كل يا سيدي ليس ذلك عارا على ابنة ضريرة، وإن نكن فقراء، فليس - والحمد لله - يعوزنا شيء، وغالب الأحيان تجبرنا على أن نقبل منها مما تجمعه، ولا يمكننا أن نبقى معها دائما في نزع، ولكن ما نأخذه بيد نرده عليها بالأخرى أضعافا، فإننا ولو على غير علم منها نكسوها ثيابا أفضل من ثيابنا، ونقدم لها طعاما أحسن من طعامنا، وكل يوم نقدم لها شيئا زائدا، فالآن مثلا نزيد على عشائها بيضتين، أما ما يبقى معها من صدقات المحسنين، فإنها تحفظه لأولادنا حتى يكبروا كما فهمت ذلك من معنى كلامها، حقا يا خواجا مثل هذه القديسة تستحق أعظم مكافأة على حسناتها، ولكن لسوء الحظ نحن عاجزون عن مقابلتها بغير الشكر.
هذا، والمسافر يصغي كل الإصغاء إلى تفاصيل الحديث، لا ينطق ببنت شفة ولا يبدي حركة، بيد أنه كان يدخن بالنارجيلة، وثغره يفتر ابتساما، وعينه تغرورق بدموع الفرح، ويده تلاطف الصبي، وكل ملامحه تدل على ما خامره من التأثر وداخله من الحبور.
فصمتت المرأة وأقبلت على مغزلها تبرمه، فبقي المسافر ساعة وهو غائص في بحر الأفكار السارة، ثم ترك الصبي ومشى إلى الحائك وقال له: دع عنك شغلك هذا.
فلم يفقه الحائك معناه ولبث في حيرة من لهجته.
فصاح المسافر: دع عنك هذا النول ومد يدك لأصافحها يا صاحب معمل الحرير.
فكرر الحائك باندهاش: أنا صاحب معمل الحرير؟ إنك تمزح يا سيدي. - هيا واطرح هذا النول فإني أهبك معملا كامل المعدات تدير دواليبه آلة بخارية. وكأني أراك لا تثق بكلامي مع أني لا أنطق بغير الحقيقة.
صفحه نامشخص