فصاح: تمام! تمام! - وكم كان يشبهك، جل سبحانه، أنفك، عينيك، ملامح وجهك، ألم يظهر لك أيضا في المنام؟! - طبعا، طبعا، في المنام وفي اليقظة، وتردد لحظة، ثم قال: ألا يمكنك أولا، أن تعطيني لقمة، لي ثلاثة أيام، لم أذق طعم الأكل، الناس أصبحوا كفرة يا ابني، يغلقون الباب في وجهك، وإذا فتحوه فلكي يقولوا لك: اذهب!
قمت من فوري أجهز له الطعام، وشعرت بيني وبين نفسي بالخجل؛ لأنني لم أبدأه بالسؤال، وبذلت غاية جهدي في توفير طبق شهي من الفول وآخر من السلاطة والباذنجان المخلل، ووضعت أمامه ثلاثة أرغفة، ثم جلست أراقبه، وأحسست أني قد كبرت فجأة وكأنني أراقب ابني وهو يأكل، واستغرقت في سماعه وهو يقول: سوف يعود أبي يا محمد، أمي قالت لي ذلك، قالته وهي على فراش الموت، وحين يعود، لن تجدني أجوع أو أتشرد في الشوارع، كل الناس سيكونون إخوتي، والسلطان هو أبونا جميعا، سوف يأتي من هنا (وأشار ناحية الشرق)، طبعا أنت تعرف الشرق من الغرب، هات كوب ماء، إنه يتقدم الموكب، في يده سيف أبيض، طوله ألف ذراع، وخلفه جيش كبير من الفرسان، والغبار الذي تثيره أرجل الخيل يحجب وجه الشمس، سيهرع الناس إليه من كل مكان، يبكون عند قدميه، ويقولون: أين أنت يا مولانا السلطان؟ نحن في انتظارك من مائة سنة، من مائتين، من ألف سنة وأكثر، وستحني الأشجار رءوسها لتحيته، وتفزع الحيوانات إليه، وتتمرغ عند قدميه، تمأمئ وتعوي وتخور وتصهل، حريم المملكة كلهم حريمه، هات كوب ماء، وقفت لقمة في حلقي، الله يلعن النسوان وسيرتهم! لن تغلق أبواب البيوت بعد اليوم في وجهي، لن تكون هناك أبواب على الإطلاق، سيقول أبي لليتيم: لا تحزن، إنني أبوك، وللجائع، والعاري، والمريض، وسوف تقبل الرعية قدميه، وتقول له: «شرفتنا يا مولانا السلطان، نحن هنا في انتظارك، من زمان، من زمان.» أكلة عظيمة، الله يعمر بيتك، لو كان الواحد يأكل مرة واحدة في العمر وينتهي، الحمد لله، كنت قد أخذت بكلامه، فبقيت أنظر إليه وأنا لا أدري هل أضحك أو أبكي، ومسح فمه بكمه، وتناول عصاه، وشكرني، ووعدني أن يدفع لي في القريب.
ووجدتني بعد لحظة أقف في الظل أمام الدكان، وأتجه ببصري ناحية المشرق، حيث يغيب شبحه.
ومع أنه قد انقضت على ذلك عشرة أعوام أو يزيد، ولم أعد أسمع شيئا عنه، فلم أزل إلى اليوم، كلما رددت بصري في الفضاء، أنظر إلى هذه الجهة، ربما كنت أنتظر أن يظهر في الأفق فرس أبيض على ظهره فارس أبيض في يده سيف طوله ألف ذراع.
وأن أرى موكب السلطان وهو يتقدم من بعيد، والغبار الذي يثيره يحجب وجه الشمس.
الشمس
الشمس تلسع وجهي، لهيبها يحرق عيني وصهدها، يكتم نفسي، الطريق ما زال طويلا على أن أسير ساعة أخرى، ربما ساعتين على الأرض المحمية كالجمر، في التراب الذي يخنق الصدر تحت الشمس التي لا ترحم، أضع حقيبة كتبي على رأسي، بعد لحظات تصبح هي الأخرى كأنها خارجة من فرن! أبحث عن شجرة أقف تحتها، لكن المزارع بعيدة، وعمال الطرق نسوا أن يزرعوا الأشجار، أشير للعربات أن تقف وتأخذني معها، لكنها تمرق من جانبي وتغمرني بعاصفة من التراب؟ لو كنت سمعت نصيحة أبي وأخذت معي الشمسية؟ لكن ماذا كان العيال يقولون؟ ماذا كنت أفعل لو ضاعت مني؟ وماذا كان يفعل أبي؟ هو اليوم راقد في البيت، أمي قالت لي أبوك جسمه نار، سمعته يتأوه وأنا خارج في الصباح، ألقيت عليه نظرة من وراء الباب، فوجدته عصب عينيه، بالليل كان يصرخ: ابعدوا عني! ابعدوا عني! أمي قالت: أبوك عنده حمى، الشمس لطشت دماغه، ربنا يلطف بنا.
الشمس تحرق رأسي، قرصها الملتهب يطبق علي، جسدي يرتعش، لو توقفت عن السير لحظة فسأقع على الأرض، والأرض أيضا ستشوي لحمي، وأمي لن تراني لتقول: يا رب الطف بنا، إنها لا تعرف شيئا، لم تكن هناك لترى ما رأيت، لم تدر ماذا حدث؟
أمس وأنا راجع من المدرسة مررت على أبي، في كل يوم كنت أراه في وسط الأنفار، الشمسية فوق رأسه والمنديل الأبيض معصوب على دماغه، كان الأنفار يحملون الطوب على ظهورهم، أو يخلطون المونة أو يرشون الماء على البناية، أو ينزلون الزلط من العربات، كنت أجلس معه قليلا، ثم أتابع سيري إلى البيت، وأمس عندما اقتربت من البناية كان هناك حشد كبير لم أره من قبل: صياح وزعيق، أصوات تلعن وأصوات تستعطف، أفندية ومشايخ، نساء وأطفال، باعة وشحاذون، اندسست من بين الصفوف لأرى أبي في وسطهم، كان هناك رجل سمين أبيض الوجه يشخط فيه، ويصرخ بأعلى صوته، هل كان هو الباشمهندس أو صاحب البيت؟ كان الرجل يصيح: أنت لا تسمع الكلام، قلت لك ألف مرة، هذا الشغل لا ينفع. أبي يرد عليه: يا سعادة البيه، أنا أنفذ الأوامر. الرجل يزعق: أنا هنا صاحب الأمر، الأوامر تأخذها مني. أبي يستطعف: أمرك على العين والرأس، الأوامر نفذناها. الرجل يصرخ: ولك عين ترد علي يا بهيم يا حمار! ذراع الرجل تمتد، يده غليظة وبيضاء وسمينة، وخد أبي يحمر، يصبح كالجمرة المحترقة، ووجهه يسود، يصبح كالفحم.
الناس تقول: معلهش يا سعادة البيك. الأنفار تقف مذهولة، تريد أن تنقض على الرجل السمين، أبي يمسك بخناقه، يريد أن يطرحه من على السقالة، الناس تفك يده عنه.
صفحه نامشخص