ألخص ما أسلفته فأقول: إن ثمة مرحلتين يجتازهما الإنسان، ليصل عن طريقهما إلى ثمرة تتولد عنهما من جهة، ولكنها من جهة أخرى تفرض عليهما وتوجههما وتقيم لهما الأهداف. وأما المرحلتان فهما:
أولا:
جمع معلومات عن أنفسنا وعن الدنيا التي نعيش فيها.
وثانيا:
إنتاج العلوم المختلفة عن شتى الظواهر الطبيعية والبشرية على السواء، وكلتا المرحلتين في حد ذاتهما ليستا «ثقافة»، إذ الثقافة هي الروح التي تسري لتدفع ذلك البناء المعرفي (المعلومات والعلوم) نحو غايات معينة يريد الإنسان تحقيقها، وبالطبع لا تسري تلك الروح التي هي الثقافة آتية من عدم، بل إن لها مصادر تنبع منها. ولقد ذكرنا أن أهم تلك المصادر ثلاثة: الدين، والفن، والأدب، وبمقدار ما يملأ الإنسان وعاءه من تلك المصادر، تكون غزارة ثقافته وقوة دفعها.
وتلك المراحل الثلاث التي ذكرناها، قد تكون - فيما أظن - هي نفسها الوحدات الثلاث التي أشار إليها الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س. إليوت» في قول له قاله استهجانا لهذا العصر الذي نعيش فيه، إذ قال: لقد ضاعت منا «الحكمة» في بحر «المعرفة»، ثم ضاعت منا «المعرفة» في بحر «المعلومات المتفرقة»، وما أسماه إليوت هنا بالحكمة، هو نفسه ما تحدثت عنه تحت اسم «الثقافة»، ففي المجتمع السليم، يكون لكل من العناصر الثلاثة دوره، لا يفرقه موج العنصر الآخر، ولكننا نلاحظ في عصرنا، أن وسائل الإعلام الجديدة قد أدت إلى كثرة المعلومات المتفرقة، دون أن ترتبط تلك الكثرة برباط «المعرفة» الموحدة، أو قل برباط النظرة العلمية الموحدة، ثم ازدادت حالتنا سوءا على سوء، حين أصبحت تلك المعرفة العلمية ذاتها بغير «ثقافة» تقيم لها الأهداف، وترسم لها الطريق.
ترى هل تجد طالبة الفلسفة صاحبة السؤال، ولو بصيصا من نور في تحديد معنى للثقافة كما أرادت؟
مدينة الفكر كثيرة الأبواب
في مستهل الخمسينات - على ما أذكر - صدر كتاب عربي عنوانه «علمتني الحياة»، يضم مجموعة من مقالات كتبها كاتبون، ليروي كل كاتب منهم في مقالته أبرز ما تعلمه من حياته، وكان هناك كتاب إنجليزي قريب الظهور، يدور في مثل ذلك الفلك، إذ احتوى على ما قرره في هذا الصدد عدد من أعلام الفكر في الغرب، وكان الكتاب الإنجليزي بعنوان: «تلك هي عقيدتي»، وأذكر أن الناشر العربي قد أراد لكتابه أن يضم نفرا من أصحاب الفكر من العرب، إلى نفر من الأعلام الغربيين الذين وردت أقوالهم في الكتاب الإنجليزي، بعد ترجمتها إلى العربية ، وكنت ممن اختارهم الناشر من العرب.
فكان أبرز ما علمتني إياه الحياة، كما رأيته في ذلك التاريخ، هو أنه كلما امتدت الأعوام بالإنسان، قلت حدة انفعاله، وزادت رجاحة عقله؛ بمعنى أن الموقف الواحد، يعرض للإنسان الواحد مرتين تفصلهما فترة من الزمن كالفترة بين سن العشرين وسن الأربعين - مثلا - أو بين الأربعين والستين، فيكون لذلك الموقف الواحد وقع مشتعل بانفعالاته، وذلك في المرة الأولى، ووقع يتسم ببرودة الفكر في موازناته لشتى الجوانب، وذلك في المرة الثانية. ولما كان الإنسان يزداد مع العمر نضجا، أمكن القول بأن هدوء العقل في تقليب الأمور قبل الأخذ في رد الفعل على الموقف المطروح، هو مؤشر دال على ارتقاء صاحبه بقدر ما يكون المنفعل الهائج السريع مؤشرا دالا على فجاجة صاحبه.
صفحه نامشخص