قصتان: عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب
قصتان: عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب
ژانرها
سليم :
نعم، ثلثي مزاياها.
بهيج :
إذن، كيف تحددها أنت؟
سليم :
إني أحددها بإطلاقها من كل تحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الموسيقى، ولكنك لا تتمكن من حصرها، ليست الموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضا، إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها، وإن شئت فقل: إن الموسيقى تتناول العواطف الأولية والحالات النفسية على أنواعها، والأصوات على اختلافها، والشعر والأدب والفلسفة، ومن هذه الوجهة لا يمكنك أن تقسم الموسيقى إلى قسمين، شرقي وغربي، وإنما يمكنك أن تميز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، وبين أصناف هذه المعاني عينها، فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبر عن العواطف والحالات النفسية التي تعبر عنها الموسيقى الشرقية عينها، أمكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها، فيتضح لك مما تقدم أن وجه الفرق فيما تسمونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في المعاني التي يقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين، وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض، وإن الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية ونظائرها الغربية ليس إلا مجرد تنوع يتبع حالات نفسية خاصة، ويمكنك أن تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بما لا يقبل الرد أن الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وإن تعددت الأمزجة.
إن عواطف الحب والبغض والرقة والقساوة والسرور والحزن، وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة، وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية، تقصر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمم في الشرق والغرب، ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبه النفوس وارتقائها، وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها، فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزا عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم ابتدائية أيضا، وهي في هذه الحال لا تعبر إلا عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان، كالشهوات الجنسية التي تمثل معظم عواطف هؤلاء القوم، وبعكس ذلك القوم الذين تحررت نفسيتهم وارتقت، فإن موسيقاهم تعبر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية، وتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية، إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصرا على «وصال الحبيب»، بل أصبح مطلبا أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه، ويشحذ عزائمهم لتحقيقه مولدا في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة، مالا يستطيع فهمه من همه وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام، هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعبر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن، الذي بلغ في الفن الموسيقي حد الألوهية؛ لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة، إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر، حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس، وهذه هي صفة النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة، انظر إلى ما تعبر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد: خذ مثلا سنفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابليون بتيار من الأنغام، تحول إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية، الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جاريا وسيظل جاريا أبد الدهر! انظر إلى معزوفاته الأخرى كسنفونيته الخامسة المعبرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء، بين الموت والحياة وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه، ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضا، لا، يا صاحبي، لم توجد الموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عندها الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار.» (بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثا من هذا النوع، وبعد صمت ظهر في أثنائه أن الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم، ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه قال بهيج: «ما رأيك إذن في موسيقانا؟»)
سليم :
الحقيقة - يا صديقي - أنه ليس لنا موسيقى تعد نتاج نفسيتنا - نحن السوريين - من حيث إننا قوم لنا مزايا خاصة بنا، أما الألحان الشائعة بيننا فليست - باستثناء ألحان شعبية معينة - مما نشأ من نفسيتنا، بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة، وإذا كان فيها ما يعبر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا، فهي تقصر تقصيرا كبيرا عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في الكون من عوامل ومؤثرات نفسية، وما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا، إن الألحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا، بل هي مما دخل على تقاليدنا وعاداتنا، إنها ألحان تقليدية فحسب.
بهيج :
صفحه نامشخص