معفرا من غير جسد!
2
وزاغ بصر إيناس حين شهد هذا المنظر الرهيب، ووقر في نفسه أن مثل هذه النهاية المحزنة قد تحل بأبيه الشيخ أنخيسيز؛ وبزوجته الهيفاء كروزا، وبطفله المعبود إيولوس، فلم يبال أن يقتحم صفوف الأعداء إلى قصره الذي خلا غابه اليوم من أسده، وبدل الشوك من ورده، وعاث فيه جنود الهيلانيين فأصبح قاعا صفصفا، كأن لم يشد في دوحه بلبل، ولم يحن فيه فؤاد إلى فؤاد!
وهناك ... في إحدى الردهات المنعزلة، وجد هيلين! نعم، هيلين! سبب هذه الكوارث المتلاحقة التي حلت بطروادة والطرواديين ... هيلين التي لم تبال أن تتزوج ديفبوس - أخا باريس - عقب مقتل حبيبها بأيام معدودة!
وجدها هنالك ... تنقدح المصائب شررا من عينها، وتتدجى غواشي الكروب فوق هامتها، وتنعقد ظلمات الكوارث على جبينها المغضن الكريه ... الجميل!
وهم إيناس أن يفتك بها لما ذكر من الأرزاء التي حاقت بطروادة من جرائها، لولا أن بدت له أمه ... فينوس، فأنذرته ألا يفعل، ثم كشفت له حجاب الغيب المحرم على أعين البشر، فرأى إلى الآلهة أنفسهم يعملون بأيديهم في تخريب طروادة وتدمير الطرواديين، وعلى رأسهم شيخ الأولمب وسيده ... زيوس ... كبير الأرباب! «فانج بنفسك يا بني ... ولذ بالبحر ... ولتنزح عن هذه الديار ...»
وانطلق إلى أبيه فنصح له أن يهرب معه، ولكن أباه استكبر وأبى، بحجة أنه ينتظر نبوءة من السماء توحي إليه بما توحي ... فغيظ إيناس وأغلظ لوالده القول؛ ثم أمره أن يهب من فوره غير مستأن فيركب كاهلي ابنه وإلا قتلوا في الحال!
ولم يسع أنخيسيز إلا أن يطيع، فسار ابنه يحمله، وسار ولده الصغير أيولوس بجانبه، وتبعتهم زوجه الجميلة كروزا.
كان قد اتفق مع أتباعه قبل أن يقصد إلى قصر الملك أن ينتظروه في هيكل خرب قريب من مياه الهلسبنت، فلما أقبل نحوهم يحمل أباه اتفقوا على أن يبحروا في الحال، ولكنه، وا أسفاه! افتقد زوجه فلم يجدها، زوجه كروزا التي كانت الساعة فقط تتبعه! لقد قتلها كلب من شياطين الميرميدون! ولما رجع إيناس ليبحث عنها لقيه طيفها الجميل، عند تمثال مينرفا، فخاطبه قائلا: «هلم يا إيناس! غادر هذه الديار في الحال، واذهب إلى شطآن التيبر؛ فإن الآلهة قضت أن تبني بيديك رومة أم القرى!» وأبحر إيناس وأبحرت فلول الطرواديين معه وعينه تفيض من الدمع على كروزا!
وفي غبشة الصبح المضطرب، كان صوت الطبل الكبير يقصف كالرعد في خرائب طروادة. وكانت الجموع الحاشدة تهرول نحو الأسطول، وكان السبي الكثير من عذارى طروادة وسائر نسائها يهرولن هن الأخريات نحو البحر، فكنت ترى هكيوبا الملكة وأندروماك الحزينة التي اغتصبها بيروس لنفسه، وكاسندرا ... تلك التي أحبتها السماء، فأصبحت في جملة السبي من سريات أجاممنون وغانياته ... وكنت ترى غيرهن يهرولن في الصباح الباكي إلى شاطئ الهلسبنت، ليركبن البحر فيغبن عن أرض الوطن إلى الأبد.
صفحه نامشخص