الإهداء
تصدير
حدود المعرفة وتقسيمها على مقتضى كفايات العقل الإنساني1
قصة الطوفان وتطورها
مقارنات
الإهداء
تصدير
حدود المعرفة وتقسيمها على مقتضى كفايات العقل الإنساني1
قصة الطوفان وتطورها
مقارنات
قصة الطوفان
قصة الطوفان
تأليف
إسماعيل مظهر
قصة الطوفان وتطورها في ثلاث مدنيات قديمة هي: الأشورية البالية والعبرانية والمسيحية وانتقالها باللقاح إلى المدنية الإسلامية.
الإهداء
إلى أحرار الفكر أهدي هذا الكتاب.
تصدير
أتى العلامة «إدورد كيرد» في أول كتابه المعروف عن فلسفة «كانت» بجمل نقلها عن «كانت» نفسه تمهيدا للكلام فيه وفي فلسفته، لم نر بدا من أن ننقلها هنا تمهيدا للكلام في موضوع الكتاب، قال:
يمكن أن نصف هذا العصر بأنه عصر النقد؛ النقد الذي اضطر كل شيء إلى الخضوع له. فالدين على عرش القداسة، والقانون على عرش العظمة، قد حاول كلاهما مرات أن يفلتا من الخضوع لهذه الضرورة، غير أنهما بما يحاولان في هذا الشأن إنما يقيمان في الأذهان شكا في ما يعضدهما من الأسس والقواعد، كما أنهما يعدمان بهذا كل ما يحبو العقل غيرهما به من الأشياء التي أثبتت قدرتها على الثبات أمام البحث الحر.
وليس لنا أن نزيد حرفا على ما كتب «كانت»، فإن هذه الأسطر القليلة العدد الكبيرة المعنى كافية عندي لأن تكون أكبر مبرر للنحو الذي أنحوه في هذا البحث.
غير أني أرى أن التعقيب على هذا ببحث في حدود المعرفة وتقسيمها، والمبادئ التي أعتقد بصحتها في هذا الشأن أمر ضروري، أقل ما فيه من الفائدة أن يتريث بعده الناقدون في مذاهبهم. وأن يصد بعض الذين يحاولون الذهاب بحرية الرأي في مذاهب وعرة عن غايات أعتقد بأن الوصول إليها خطر مكروه.
على أن «حدود المعرفة وتقسيمها» على مقتضى كفايات العقل الإنساني، إن كان بحثها ضرورة ألجأتنا إليها ظروف الأحوال، فلا أقل من أن نصرح برأينا في أن هذه الضرورة سوف تزول عما قريب، وأن الباحثين سوف يفسح أمامهم مجال القول، من غير احتياج إلى تمهيد وإلى مقدمات، أعتقد أنها كثيرا ما أثرت في لب الموضوعات تأثيرا صرفها عن القصد، وذهبت بها في مذاهب أنحتها عن الغرض الأصلي الذي من أجله وضعت، والذي من أجله أعنت في سبيلها الكاتبون قواهم وعقولهم. وأظن أنني بلغت بهذه الكلمات غرضا لم أجد إلى التعبير بغيرها عنه سبيلا.
حدود المعرفة وتقسيمها على مقتضى كفايات العقل الإنساني1
الكفايات التي هي أظهر من غيرها أثرا في حياة الإنسان العقلية ثلاث، والظاهر أن هذه الكفايات هي الكفايات الأساسية التي تقوم عليها المعرفة وهي:
أولا:
كفاية الاعتقاد.
ثانيا:
كفاية التأمل.
ثالثا:
كفاية الإثبات.
وعن هذه الكفايات الثلاث تنتج ثلاث صور من المعرفة. فعن كفاية الاعتقاد ينتج الدين، وعن كفاية التأمل تنتج الفلسفة، وعن كفاية الإثبات ينتج العلم؛ إذن فالدين والفلسفة والعلم ثلاثة اصطلاحات وضعت لتدل على ثلاث صور معينة من صور المعرفة الإنسانية، بحيث يفصل بينها في الاعتبار العقلي حدود موضوعة، ولا تجتمع إلا في حيز واحد؛ إذ ترجع برمتها إلى أنها نتاج للعقل الإنساني.
وما نعني بالعقل الإنساني إلا ذلك الشيء الغامض المبهم، الذي فيه من الفطرة ومن الكسب مزيج ينتج تكوينا نسميه العقل. وما دام العقل - كما سنرى بعد - أحد الأشياء التي نسلم بها ولو عجز العلم عن إثبات وجودها بأساليبه الموضوعة، اضطررنا إلى القول بأن تعريف العقل وحده مستعص إلى حد بعيد. ولكن يكفي أن نعرف من العقل أنه المصدر المكون من فطرة وكسب، والذي ينتج عنه مجموعة المعرفة الإنسانية. (1) كفاية الاعتقاد ونشوء الدين
في الحياة الإنسانية ظاهرة من الجائز أن تكون قد سبقت بالوجود أول مدارج الاجتماع. تلك ظاهرة الاعتقاد، فكما أن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، فهو كذلك كائن معتقد بالطبع؛ أي إنه ذو عقيدة في صحة شيء وبطلان آخر.
فالحاجة - حاجة الإنسان إلى الاحتفاظ بكيانه وحياته - جرته إلى الموازنة بين الحالات المحيطة به، مقودا بفطرته مسوقا بمقتضى غريزته إلى الاعتقاد بصحة عدد من الحقائق المرجحة، التي تحف به ظاهراتها وتحوطه نتائجها.
عاش الإنسان الهمجي عيشة الفطري الساذج في جوف الطبيعة، يتلمس أوجه الحقيقة ليزيح عن عينيه وشاح الجهل والعماية التي جرته إلى عبادة الأوثان والعناصر، ومضى يتأمل نواحي الطبيعة ليقع على قبس من نور الحق يجلو به ظلمة الشك القاتل، الذي يحوط بماضيه ويحف بمستقبله وينهك قواه في حاضره، فلم يجد سوى الوهم والتخيل يحبوهما الخوف من جهل بالمستقبل، فراح يضرب مع أوهامه في فلوات الفكر القصي، يأخذ بيده الخيال وتنجده كلما زلت قدمه في مزالق الوهم، تصورات ما نزل بها من سلطان.
تلك حالات تطمئن إليها النفس، ويسكن إليها العقل الفطري، ما دامت آتية من ناحية الفكر منتهية بالإنسان إلى صورة من صور الاعتقاد بصحة شيء ما، مهما كان ذلك الشيء في ذاته باطلا.
فالإنسان إذن كائن معتقد بطبعه، وما كان للإنسان أن يتبدل بمعتقده معتقدا آخر، قبل أن تصح عنده مقدمات تسوق إليه، وما كان له أن يثبت على معتقدين متناقضين أو متضادين تلقاء شيء بذاته، في زمان بذاته؛ ذلك لأن للعقل الإنساني طبيعة لا تسع إلا اعتقادا في شيء بعينه في زمان بعينه.
من هنا نقول بأن الاعتقاد الفطري في الإنسان تكأة الدين، كما أن الخوف والجهل منشؤه. قال المؤرخ ليكي في كتابه: «تاريخ حرية الفكر في أوروبا» ص16 جزء أول طبعة 1913 ما يلي:
نجد في حياة الإنسان الفطرية الأولى أن الاعتقاد بالسحر كان عاما، بل غالبا ما ظهر ذلك الاعتقاد مصحوبا بضروب شتى من القسوة الغاشمة. والسبب في ذلك ظاهر؛ فإن الفزع كان في كل الحالات الباعث الأول على تصوير الأديان؛ لأن الظاهرات التي كانت تبلغ من عقول المتوحشين أبعد مبلغ من التأثير، ليست هي الظاهرات التي تدخل في حيز الأشياء الطبيعية من الأسباب الموصولة بالمسببات التي تقع تحت التجربة، أو تلك التي تنتج أكثر مظاهر الطبيعة عودا بالنفع والخير على الإنسان، بل هي الظاهرات المهدمة القاسية التي ترى على ظاهرها؛ كأنها خارجة عن النسق العام.
والحب والعطف أقل في الواقع من الخوف في النفس أثرا؛ لذلك نرى أن أقل خروج في الطبيعة على أوجه تجانسها الظاهر مدعاة إلى إحداث انفعالات نفسية في الإنسان، أمعن في النيل من شعوره من أبعث مظاهر الطبيعة على الروعة الهادئة والإعجاب الساذج. فإذا وقع في عقل الهمجي من آثار الطبيعة أبلغها في الشدة والعتي، أو إذا أصابه من الأمراض مهلكها، أو من أخطار الطبيعة ما يؤدي به إلى العدم، فهنالك يستمد الهمجي من تلك الحوادث أسبابا يبني عليها اعتقاده في الشياطين والأرواح الشريرة. ففي ظلام الليل الحالك أو في حدوث العواصف الشديدة العاتية وترديد الوديان والجبال صدى تلك الرياح المتناوحة، أو في ظهور مذنب عظيم يضيء الليل بوهجه وضيائه، أو في حدوث خسوف أو كسوف تظلم معه جوانب الطبيعة بعد إشراقها، أو في وقوع قحط يذهب بالحرث ولا يبقي النسل، أو في أي مرض يكون له تأثير ما على قوام العقلية السليمة، بل في كل ما يسوق إلى شر أو ينتج ضرا، مبعث في نفس الهمجي على الشعور بشيء يتخيله مما وراء الطبيعة.
وهو إذ يعيش معرضا إلى قواسر الطبيعة وأعاصيرها، جاهلا سلسلة الأسباب التي تصل بين أطرافها المشعبة، يقضي الهمجي عيشه في خوف مستمر، متخيلا أن هالة من الأرواح تحيط به، وأن جوا من الشر يؤويه.
ذلك يدل على أن منبت الدين الأصلي اعتقاد فطري، ينزل منزلة الضرورات التي يرجع أصلها إلى الغرائز، جرت إلى تشكيله حالات أحاطت بالإنسان، فاختلفت نظراته في المعتقد الديني باختلاف تلك الحالات. (2) كفاية التأمل ونشوء الفلسفة
إذا خرجنا من عالم الاعتقاد ولجنا عالم التأمل. ويحسن بنا أن نبين هنا أن الإنسان كما هو معتقد بالطبع واجتماعي بالطبع، هو كذلك متأمل بالطبع، ولن يكون تأمل بلا اعتقاد ولا فلسفة بلا تأمل.
يبدأ الإنسان بالاعتقاد من غير أن يكون له اختيار في أن يتأمل في حقيقة ما يعتقد به، فإذا داخل الإنسان الشك في حقيقة شيء مما يعتقد به، بدأ يتأمل في ما يقوم عليه اعتقاده من المقدمات، وفيما يمكن أنه يصح لدى العقل من النتائج التي تؤدي إليها هذه المقدمات. فإذا صح لديه من طريق ما أن الحقائق التي اعتقد بها بديا لا تلائم ما وصل به إليه التأمل ، أخذ من ثم يتلمس طريقا يوفق به بين معتقده واستنتاجه؛ أي بين دينه وفلسفته. غير أنه غالبا ما يعز عليه أن يلغي الدين، كما يعز عليه أن يلغي الفلسفة، فيحاول من ثم المزج بينهما مزجا أخرج لنا كل صور الدين العليا، وكل مذاهب الفلسفة اللاهوتية التي قامت على مدى الأزمان. (3) كفاية الإثبات ونشوء العلم
من الاعتقاد ومن التأمل ممزوجين تتولد حالة ثالثة، هي من حيث الأصل فطرية في الإنسان. على أن هذه الحالة لن تنشأ إلا مع الشك؛ فإن الإنسان إذا شك في معتقده ثم شك في استنتاجاته التأملية، نزع ضرورة إلى الإثبات، فإذا كملت لديه هذه النزعة الإثباتية نشأ مع كمالها الأسلوب العلمي في أول مدارجه، فإذا تدرج في طريق الإثبات تحيزت الطريقة العلمية الإثباتية على الأسلوب الحديث، فأصبحت عبارة عن وحي الحواس، تحديدا لها عن وحي المعتقد ووحي التأمل.
وهنا يجب علينا أن نرجع إلى الفلسفة الإثباتية
؛ لنقول بأن ما وضع أوغست كونت من القواعد في تقسيمها يلائم تمام الملاءمة تقسيم المعارف الإنسانية على حسب الكفايات العقلية في الإنسان. فإن دراسة الإدراك الإنساني من كل ناحياته تدلنا على وجود قانون ضروري يخضع له العقل، نتبينه من أثره في النظام الاجتماعي والتجاريب التاريخية الثابتة.
إن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا، وكل فرع من فروع معرفتنا، لا بد من أن يمر بالتوالي على ثلاث حالات مختلفة: الأولى اللاهوتية وهي التصورية التخيلية، والثانية المتنافيزيقية الغيبية وهي التأملية المجردة، والثالثة الإثباتية - أو تجاوزا - اليقينية الواقعة، هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة الإثباتية؛ أي فلسفة «كونت» الحديثة، وعليها يقوم التقسيم الأخير الذي اعتمد عليه الباحثون في تمييز العلوم بمقتضى الكفايات العقلية في الإنسان. أما الحالة الإثباتية فهي التي ينشأ فيها العلم الصحيح.
إن من أخص ما نحتاج إليه في تحديد معنى العلم أن نظهر الفرق بين نزعة العلم ونزعة الدين؛ أي الفرق بين ما تنتج نزعة الاعتقاد ونزعة الإثبات في الإنسان من المظاهر.
أما الدين فنزعته ذاتية
Subjective
محدودة في أنها تنسب أو تحاول أن تنسب قيمة ذاتية خاصة لحادثات الحياة وظواهرها، وهي في أهم وجوهها عبارة عن معرفة الوجود بشكل عام مطلق مستمد من الرغبات والضرورات الراجعة إلى الشعور أو القلب الكامن وإلى روح الإنسان؛ إذ ترتد إلى النظر في حياتها الداخلية أكثر من نظرها في عالم الطبيعة الخارجي. أما نزعة العلم فيفخر العلماء بأنها غير ذاتية بل موضوعية عامة
Objective .
يصل الدين إلى العالم الخارجي المنظور مزودا بمطالب، يحاول من طريقها أن يخلق جوا ملائما لمجموعة من الرغبات والانفعالات الخاصة. أما العلم فيظهر خلوا من كل شيء، ولا يصل إلى العالم إلا ليعرف الكون من طريق النظر الحسي في طبيعته.
يترك العلم الطبيعة حرة في أن تلقي في روع كل إنسان سرها وروايتها بلغتها الخفية وبلغتها الحقة. أما الدين فلا يرضى للطبيعة أن تتكلم بلغتها، فيضع لها لغة ويتنحي لها أسلوبا من البلاغة مخالفا لبلاغتها. ثم يرجع في كل الظواهر إلى استيفاء أغراضه الأولية، لا إلى الترجمة عن حقائق الكون كما تريد الطبيعة أن تلقيها في روعنا.
هذه هي الحدود الموضوعة للكفايات العقلية الثلاث وما ينتج عنها من صور المعرفة. فلنحاول من ثم تحديد العلاقة الواقعة بينها. (4) العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم
2
لقد حدد الأستاذ «تيودور مرتز» هذه العلاقة تحديدا قويما؛ لهذا نعتمد عليه في شرحها وبيانها؛ قال:
هنالك أشياء كثيرة تقوم في عقلية كل فرد من الأفراد: شخصية في طبيعتها ذاتية في مبعثها، ولهذه الأشياء في أنفسنا من الشأن والخطر ما لغيرها من مطالب الحياة وحاجاتها، ومن هذه الأشياء تتكون المادة الحقيقية التي يتركب منها الفكر الخارج عن ميدان العلم، وهي في جوهرها ومظهرها مناظرة للعلم الإثباتي؛ أي إنهما طرفا تناظر. وفي هذا الشطر من الفكر لا يستطيع شخص بذاته أن يقوم بعمل ينتفع به الكثيرون على نفس الطريقة التي تحتذى في العلم. فالأخذ بالبرهان في ذلك الشطر من الفكر مستحيل، والإجماع على شيء فيه لا يضم تحت لوائه إلا عددا قليلا من الناس، وذلك هو الدين.
أما الصفة التي تلازم ذلك الشطر من الفكر فكونه فرديا ذاتيا، في حين أن العلم مهما كانت صبغته ومهما كان أصله عام موضوعي - أي غير ذاتي - يرجع إلى الموضوع لا إلى الذات التي تفكر في الموضوع وتفحص عنه. فإذا مثلت الفكر بشيء ذي طرفين متناظرين، ألفيت أن العلم الرياضي في أحد طرفي الفكر، وأن الدين في الطرف الآخر، وتجد أن التجانس والاتفاق في الطرف الأول صفة ملازمة كالاختلاف في الطرف الثاني. تلحظ أن وحدة الفكر صفة ثابتة في الطرف الأول، في حين أنك لن تقع لها على ظل في الطرف الثاني. إن وحدة الفكر لم تعرف في الدين ولن تعرف.
فيما بين هذين الطرفين تقع على مسافة كبيرة من الخلف تصل بينهما. إن هذه المسافة يغشاها من الفكر صورة تصل بين الطرفين، فتبرز حينا في هيكل من المعرفة وآخر في مثال من الإيمان، فيختلط فيها قليل من الأشياء المحققة بكثير من الإيمان والاعتقاد المبهم، تلك المسافة الكبيرة وهذه المفازة المترامية الأطراف، والتي تتوارد عليها صور التغاير والاختلاف سريعة متعاقبة، هي سكن الفلسفة الحقيقي ومنبتها الأصلي، الفلسفة التي تتناول الحقائق ولا تأنف من الإيمان. الفلسفة أصل المعرفة ومنبع المعتقدات واليقين. الفلسفة حلقة الوصل بين الطرفين المتناظرين: طرف العلم الإثباتي وطرف الدين. (5) استعمال اصطلاح «العلم» استعمالا مجازيا
بعد أن قطعنا هذا الشوط من البحث، يجب علينا أن نبين أن اصطلاح العلم كثيرا ما يستعمل مجازيا، فيدل على المعرفة، فإن الغالب عند كل من يحاول أن يعرف شيئا من حقائق الكون، أو قضايا المنطق الجدلية، أو القياس، أو أصول الدين، أو التشريع أو النفس أو الأدب، أن يسمي هذا «علما». والكل معذور في أن يستعمل هذا الاصطلاح في هذا المعنى المجازي الواسع؛ لأن كل ما وصل إلينا من مذاهب الفلسفة أو مبادئ العلوم أو أصول الشرائع من العالم القديم سمي علما؛ ذلك لأن تقسيم المعرفة على مقتضى كفايات العقل الإنساني وليد العصور الحديثة؛ ولهذا تجد من أصعب الأشياء أن تناقش شخصا لم تتحيز في عقليته الفروق الموضوعة بين أقسام المعرفة على مقتضى الكفايات التي تستمد منها في تكوين العقل؛ ذلك لأنه يعتقد أن الدين علم، وأن الفلسفة علم، وأن العلم علم، في حين أن الاصطلاح الجامع لهذه الصور الثلاث هو «المعرفة».
فالدين معرفة، والفلسفة معرفة، والعلم معرفة، ومن مجموعها تتكون المعارف الإنسانية. ولا جرم أننا من غير أن نميز بين الفروق الموضوعة بين هذه الصور نضرب في ليل من الفوضى حالك السواد؛ لهذا نحدد صور المعرفة بما يأتي: (1)
الدين
Religion - اعتقاد
Belief - ذاتي
Subjective . (2)
الفلسفة
- تأمل
Meditation - لا ذاتي صرف ولا موضوعي صرف
Neither Purely subjective nor purely objective
أو استنتاج
Deduction . (3)
العلم
Science - إثبات استقرائي تام
- موضوعي
Objective ، وبين هذه الصور الثلاث يجمع اصطلاح واحد هو: (4)
المعرفة
Knowledge .
على هذا نجد أن العلم محدود تحديدا تاما بسيطا وكذلك الدين. فإذا لم نراع هذه الحدود وإذا لم نراع الدقة في استعمال هذه المصطلحات، لم نستطع أن نحدد التفكير، وبذلك تختلط علينا المقاصد في العلم والفلسفة والدين، بل نعجز عن أن نحدد الأغراض التي ترمي إليها، ونبالغ في تقسيم الحاجات الفكرية والمادية مبالغة قد تصل إلى حد الإفراط حينا أو التقصير حينا آخر، بل لا نخطئ إذا قلنا إن كل المناقشات التي تقوم حول المباحث العقلية، تصبح خليطا من صور الفكر، لن تؤدي إلى نتيجة ولن نصل معها إلى غاية. وبذلك نفسح المجال للجدل المنطقي الذي ذاعت مع ذيوعه مذاهب السفسطة في العصر اليوناني.
لا جرم أن بحثنا هذا يظل ناقصا إذا لم نظهر الباحث على أشياء عديدة يشتبك فيها العلم مع الفلسفة اشتباكا كبيرا. وعلى هذا نبدأ بالكلام في «الفرض»، وليس غرضنا أن نحدد ما هو «الفرض» في المنطق أو ما هو «الفرض» في الفلسفة القديمة، بل نقسم الفرض إلى قسمين: أولهما الفرض الضروري وثانيهما الفرض الإمكاني. ثم نمضي في بيان الفرض الضروري لنستطيع بذلك أن نميزه عن الفرض الإمكاني. أما الفرض الضروري فهو ما يقبله العلم على ما حددناه من قبل. وأما الفرض الإمكاني فلا مكان له إلا في عالمي الفلسفة والدين. (6) تعريف الفرض الضروري «الفرض الضروري هو عبارة عن الحكم الذي يقسر العقل على التسليم به بمقتضى ما في العقل من ألفة؛ لأنه لا يمكن الاحتفاظ به إلا من طريق التسليم بذلك الفرض. في حين أن «العلم»
Science
يضطر إلى التسليم مع العقل بصحة ذلك الفرض، ولو أنه يعجز عن إثباته بالطرق العلمية الموضوعة.» (7) تعريف الفرض الإمكاني «هو الفرض الذي يستوي فيه حدا الوجود والعدم، أو الذي يحتمل أن يكون له حقيقة موجودة، كما يحتمل أن لا يكون له أية حقيقة في الخارج. ومعنى هذا أن العقل إذا سلم بالفرض الإمكاني أم لم يسلم، فإنه يظل محتفظا بألفته كاملة. في حين أن العلم يرفض التسليم بالفروض الإمكانية رفضا باتا تاما، ما لم تثبت صحتها ثبوتا قاطعا بالأساليب العلمية المعروفة.» (8) شرح المذهب في الفرض الضروري
الطريقة العلمية تقوم على وحي الحواس؛ ولذلك يقول الباحثون في الأسلوب العلمي: «كل ما لا تثبته الحواس لا يمكن أن يكون صحيحا.» بهذا قال سبنسر، وجاراه في ذلك الكثيرون. على أن الحواس التي يفقد الإنسان بفقدانها كل ذاتية عقلية فيه ناقصة، لا تؤدي إلينا من الإدراك إلا ما يقوم مقام الفرض الصرف في كثير من الحالات. ولقد عدد فلاسفة العلماء حقائق كثيرة نحن مجبرون على الاعتقاد بصحتها، في حين أن العلم يعجز عن معرفتها وإثبات وجودها بطرقه الموضوعة. وإليك مثال من ذلك:
وجود عالم خارج عن حيزنا
خذ مثلا التكأة التي تكتب عليها، كيف تعرف أنها خارجة عن حيزك؟ وبالأحرى كيف يمكن أن تثبت علميا أنها خارجة عن حيزك؟ إنك إذا نظرت إليها أو لمستها أو وقعت تحت حسك بحال من الأحوال، فكل ما في مستطاعك أن تعرف منها ليس سوى مدركات حواس كائنة فيك، وليست خارجة عن حيزك، لا في لونها وصورتها فحسب، بل أيضا في صلابتها وقوتها. والدليل على هذا أن فقد أعصاب البصر يمنع عينك أن تراها، وأن فقد أعصاب اللمس يمنع عينك أن تحس بها، وأن فقد الحواس جميعها يمنع عينك أن تدرك أنها موجودة البتة.
ذلك في حين أنه وإن لم يكن في مستطاعك أن تعرف من وجود تلك التكأة علميا إلا إحساسات كائنة في حيزك، إلا أن تركيب عقلك قد وضع على نظام يجملك على أن تعتقد بأنها كائنة في حيز خارج عنك. فإذا اعتقدت بما يخالف ذلك، وأخذت تؤدي عملك بما يوحي إليك به اعتقادك هذا، كان ذلك دليلا على أن ميزان العقل قد اختل وتفككت ألفته. هذا فرض ضروري يسلم به العقل قسرا عنه، ويسلم به العلم وإن عجز عن إثبات وجود التكأة في عالم خارج عن حيز الإنسان بأساليبه الموضوعية.
في أن وجود المادة يتوقف على وجود قولي في الجذب والدفع
أما أن قوتي الجذب والدفع حقيقتان طبيعيتان، فذلك ما لا سبيل إلى إدحاضه أو التشكك فيه. فإننا إذا أخذنا جسما صلبا وأردنا أن نفصل بعض أجزائه عن بعض فإنه يقاوم مجهودنا، وكذلك هو يقاومنا إذا أردنا أن نضغط بعض أجزائه، مثبتا بذلك أنه إنما يتركب من دقائق تتجاذب وتتدافع في آن واحد. وإلى هذه الحقيقة تعود ظاهرة التفاعل وعدم التفاعل في العلم الطبيعي، بل وفي أجزاء الطبيعة برمتها، ومع كل هذا فإن هذه الحقيقة تعلو الإدراك العلمي في تعليل كيف أن دقيقة واحدة تجذب أخرى في حين أنها تدفعها وتقاومها. وفي ذلك يقول سبنسر: إننا لا نستطيع أن نأتي بقطعة من المادة يظهر فيها أن جزءا يجذب آخر في حين أنه يدفعه، ومع هذا فإن الاعتقاد بذلك إلزامي ضروري.
إذن؛ فالتسليم بوجود قوتي الجذب والدفع فرض ضروري، العقل مقسور على التسليم به، وفي ذلك يجاريه العلم كرها، ولو أنه يعجز عن إثبات وجود هاتين القوتين بطرقه المعروفة.
في بقاء القوة
أي في حقيقة أن كمية القوة الموجودة في الكون ثابتة لا تزيد ولا تنقص. يقول العلامة «سبنسر»: إن هذا الاعتقاد أساس كل العلوم الحديثة، وإنه النبع الفائض الذي نستمد منه العلم بكل النواميس الطبيعية. يقول: إن كل النواميس الطبيعية الأخر ليست سوى توابع تعود إلى هذه الحقيقة العظمى، وكل الاستقراء العلمي «يفرض» أن القوة ثابتة؛ لأنها إذا لم تكن كذلك أصبحت أدوات قياس الأبعاد، التي هي في ذاتها عبارة عن قياس القوة الجاذبة، وكل أدواتنا الأخرى التي نحقق بها استنتاجاتنا العلمية تتغاير بين يوم وآخر أو بين ساعة وأخرى. وبذلك تصبح كل المعارف الطبيعية غير ممكنة؛ لذلك كان مبدأ بقاء القوة - ولو لم نستطع أن نثبته علميا - اعتقادا إلزاميا ضروريا.
والعلامة سبنسر يعتقد أن هذا الفرض وإن كان أساس العلم الطبيعي، إلا أن «العلم» يعجز عن إدراكه وإثبات وجوده بطرقه المعروفة التي تعتمد على الحواس. وهذا مثال حق يثبت قاعدة أن كثيرا مما لا يمكن أن يدركه العلم الطبيعي يجب أن يعتقد بوجوده؛ إذ لولا هذا الأمر لتحلل ذلك الهيكل النظامي الذي ترتكز عليه معرفتنا.
هذه أمثال ثلاثة. وفي مستطاعنا أن نأتي بأمثال أخرى. فالعقل ووجوده في ذوات غير ذواتنا لا يمكن إثباته بالطرق العلمية، وكذلك الأثير والاعتقاد بتفوق العقل على المادة، والشجاعة على حب الملاذ، والاعتقاد بوجود السببية العلمية، كل هذه الأشياء تقسر على الاعتقاد بوجودها عقلا باعتبارها فروضا ضرورية، في حين أن العلم يجاري العقل فيها ولا ينكرها عليه، بل هو مضطر إلى اتخاذها قاعدة يبنى عليها، ولو أنه يعجز عن إثبات وجودها بالأسلوب العلمي.
هذا هو الفرض الضروري. فلنحاول من ثم في تطبيقه على بعض الأشياء التي تقوم عليها معرفتنا؛ لنعرف الفرق بينه وبين الفرض الإمكاني، ولنجعل الفكرة في وجود الله محورا يدور من حوله البحث. (9) الاعتقاد بوجود الله فرض ضروري
يعتقد كثير من أصحاب العقول الراجحة في هذا الزمان أنه ليس في الفلسفة من شيء هو أبعد من ألفة العقل من تلك الفكرة التي يطلق عليها اصطلاح «الناسوتية» أنثروبومورفزم
Anthropomorphism ؛ أي الفكرة القائلة بتزويد الله بشيء من الخصائص الإنسانية. على أن الاعتقاد بأن الخالق مكون على حسب نماذجنا العقلية، أو أنه صورة من صور الفكر الإنساني، هو اعتقاد فيه من الباطل بقدر ما في القول بأن الأرض مركز النظام الشمسي، وأن الإنسان محور العالم.
وعلى الرغم مما في هذا النقد من الصحة ومطابقة الواقع ، فإن محاولة الاعتقاد بأن علة الكون من الممكن إدراكها بما يبعد عن إدراك ذواتنا، أمر بعيد عن الإمكان بحكم الطبيعة، بل قول هراء لا أثر له من الحقيقة.
خذ لذلك مثلا «اسبينوزا»؛ فإنه أبعد الفلاسفة عن الاعتقاد بأن الخالق مكون على نموذج عقله، وقد مضى في فلسفته متخيلا أنه اجتاز هذه العقبة الكئود بأن جعل الخالق عبارة عن «امتداد وفكر»، غير أن دكتور «مارتينو» قد نقض هذه الفكرة متسائلا: «من أين أتى لاسبينوزا فكرة «الامتداد» إلا من النظر في حالات جسمه الطبيعية، ومن أين أتى له أن الله «فكر» إلا من النظر في حالات عقله؟» ذلك لأن الامتداد والفكر ليسا سوى شيئين هما أخص ما تتصف به الأجسام والعقول.
وكذلك سبنسر، فإنك - إن نظرت في فكرته في الله - لم تجد أنه تخطى الحد الذي وصله «اسبينوزا». فكما أن الخالق عند سبينوزا لم يكن إلا شبحا إنسانيا أتمثله حالا في مكان - امتداد وفكر - كذلك كان الخالق عند سبنسر عبارة عن تمثل صرف لفكرة غير معينة هي فكرة «القوة»، وهي فكرة مستمدة من أحط الخصائص الإنسانية؛ خاصية إدراك الحس؛ إذ قال بأن الخالق «قوة خفية» تدبر الكون.
وأنت مهما قلبت وجوه الرأي وأنعمت النظر، فإنك تجد دائما أن فكرة القوة كما ثبت من قبل مستمدة من قسم من ذاتيتنا؛ أي من إدراك الحس، إذن نجد أن سبنسر بدلا من أن يجعل الخالق بعيدا جهد البعد عن الذاتية البشرية كما كان يعتقد؛ إذ إنه يتمثله على نموذج مستمد من أحط خصائص الإنسان. على أنه بعد أن حمل على «الناسوتية» لأنها تزود الله بأرقى الخصائص الإنسانية، مستقلا ذلك في جانب الله، رجع فزلت قدمه فيما زلت فيه قدم غيره من الفلاسفة، فزود الخالق بخصائص مستمدة من أحط الصفات التي يشارك فيها الإنسان أدنى الحيوانات، بدلا من أن يتركه مزودا بأرقى الخصائص الإنسانية.
ومن الجلي بعد هذا أننا في كل المباحث التي تتعلق بالنظر في أصل الأشياء، لا يجوز مطلقا أن نتساءل عما إذا كنا نصور «علة الكون» على نسق مستمد من ذاتيتنا؛ لأن تصور العلة على نسق الذاتية البشرية أمر لا يمكن أن تنصرف عنه ذات إنسانية فانية. بل الواجب أن نتساءل دائما عما إذا كنا نصورها على نسق مستمد من نظريات سطحية، أم نصورها على نموذج مرجعه السعة في النظر، والألفة التامة الموافقة لنظام العقل الإنساني.
أما وقد أظهرنا أننا لا نستطيع أن ندرك من علة الكون إلا نموذجا يرجع تصويره إلى تجاريبنا الذاتية، فإنه يكون من الجلي أن اعتقادنا في وجود إرادة عاقلة؛ أي علة خالقة، أو عدم اعتقادنا، يرجع إلى ما ندرك من فكرة السببية. وما دام فهمنا للسببية عائدا إلى ما ندرك منها حسب تجاريبنا العلمية؛ أي إنها تنحصر في القياس على السوابق الطبيعية الظاهرة أجلى ظهور، فمن الواضح أننا لا نرضى في عقليتنا فكرة التسلسل السببي إلا بالاعتقاد في أن الأشياء لا بد من أن تكون قد نشأ بعضها عن بعض متدرجة في سلسلة منظومة خلال «الزمان»، وهذا أمر يلزمنا إلزام «الفرض الضروري» بوجود إرادة عاقلة مخبوءة وراء عالم الظواهر الطبيعية، ظلت مؤثرة في الماضي والحاضر، وستظل كذلك في المستقبل.
غير أننا إذا اعتقدنا بأن السببية الحقيقية تشمل في مدلولها فكرة «الإرادة». فمن الظاهر أننا إذا أردنا أن نحتفظ بألفة العقل البشري؛ تلك الألفة الصحيحة التي لا يمكن أن نتخذ غيرها دعامة للبحث وراء الحقيقة، فمن المحتوم علينا أن نعتقد في إرادة عاقلة حرة نتخذها علة للأشياء، أو بعبارة أخرى أن نعتقد في خالق. وعلى ذلك نلزم القول بأنه كما يكون رأينا في السببية، كذلك يكون معتقدنا في الدين.
أما إذا أردنا أن نصل إلى نتيجة جلية واضحة في بحثنا هذا، فيجب أن نظهر أولا أن العلة الوحيدة التي في مستطاعنا أن نتناولها بمعرفة يقينية وبحث اختباري هي إرادتنا الذاتية، وقدرتها على تحريك أعضاء الجسم، والأجسام التي تقع تحت سلطانها. وما فعل الإرادة الإنسانية في الواقع إلا الانتقال من حركة عقلية إلى فعل طبيعي؛ أي الانتقال من العقل إلى المادة. وما دامت معرفتنا للسببية من طريق الاختبار مقصورة على ذلك، فمن الظاهر الجلي إذن أننا إذا تركنا وبداهتنا الفطرية، لزمنا أن نعود بالكون كما فعلت كل الأديان إلى فعل عقل عظيم نعرفه باسم بارئ الأشياء. فإذا ما فعلنا ذلك نكون قد حفظنا على العقل البشري تلك الألفة التي يتطلبها الاعتقاد الصحيح. •••
إن هذه النتيجة على ما فيها من من السذاجة وقربها من أحكام العقل الأولية، لا يتركها العلم من غير أن يتحداها بسلطانه. يتدخل العلم في هذه النتيجة ويهمس في الضمائر والعقول بأن تلك الحركة العقلية التي نسميها الإرادة ليست إذا ما بحثت من أساسها سببية حقيقية، ولا تزيد عن كونها ظاهرة عقلية أو عرضا من أعراض سببية حقيقية. وما تلك السببية الحقيقية لدى العلم إلا تلك الاهتزازات التي تتناول نشاط دقائق المخ ومراكز الحس العصبية. وعلى ذلك يكون مضمون السببية الصحيحة عند العلم ليس الانتقال من الحركة العقلية إلى الفعل الطبيعي، بل الانتقال من سابقة طبيعية إلى لاحقة طبيعية؛ أي من مقدمة طبيعية إلى نتيجة طبيعية، ولا تتعدى مطلقا حكم السنن التي تتصرف فيها وتنتجها.
يقول العلم: إن الحركة العقلية التي ندعوها الإرادة ليست سوى عرض يلازم اهتزازات دقائق المخ المادية، وليس لها من أثر في إحداث الأفعال أكثر من أي عرض آخر.
فإذا كانت نظريتنا في الكون ليست سوى استعراض صرف للنظريات التي تخلقها عقولنا، وإذا كان تكوين عقولنا يدل على أن الإرادة ليست السببية الحقيقية، وأنها ليست إلا عرضا من أعراض السببية الحقيقة، فظاهر أن الاعتقاد في عقل مدبر أو إرادة ترد إليها العلة في وجود الكون، يتحطم على صخور العقل البشري ويتفرق بددا، وتحل محله عندنا تلك النظرة المادية الضيقة التي تسوقنا إلى القول بأنه ليس في العالم إلا سلاسل من السوابق الطبيعية، ونتائج متلاحقة تتبع إحداها الأخرى على توالي الأحقاب وخلال تواتر الزمان، كما كانت وكما هي كائنة وكما ستكون.
على أننا إذا أردنا أن نرد على القائلين بالسببية العلمية وكفايتها لتعليل كل ما في الكون والحياة، فليس من قصدنا أن ندفع براهينهم برهانا ببرهان. ولكن قصدنا ينحصر في أن نظهر أنهم إنما ينظرون في العالم من بين أقدامهم نظرة ضيقة، يتبدلون معها من ألفة العقل والحقيقة التي في مستطاع العقل أن يدركها، بعماء صرف لا نظير له من شيء في هذا الوجود إلا عماء المادة الجامدة. •••
ينصرف الناس في كل ما يتناولونه بالكلام والبحث، وهم على شعور تام بأن كل واحد منهم إنما يملك شيئا يقال له القوة المدركة، وأن لهم شيئا يقال له حس الجمال والموسيقى وما إليهما من الخصائص، كما أنهم يملكون ذلك الشيء المبهم الذي يسمونه الإرادة.
فإذا سقت أبحاثك مقتنعا بأن الإرادة ليس لها من وجود حقيقي، وأنها ليست سوى عرض من أعراض اهتزازات دقائق المخ، لم يبق أمامك من شيء آخر إلا أن تنكر مع إنكارك الإرادة كل وجود حقيقي لكل الخصائص العقلية التي للإنسان، وعلى نفس الحجج التي يستند إليها الماديون في إنكار الإرادة، نستطيع أن نستند في إنكار كل القوى المدركة والملكات الأخرى.
نستطيع أن نقول مثلا بأن القوى المدركة برمتها إنما هي عرض لاهتزازات دقائق ما في مادة المخ، وبذلك لا يكون لها وجود حقيقي البتة. وكذلك الحال إذا نظرت في الجمال؛ يمكنك أن تعتبره كمجرد وهم أو خيال، وليس بحقيقة ثابتة خالدة، تستطيع أن تقول إن الجمال عبارة عن مجرد تنسيق للمادة في صور معينة، لا يلبث أن يزول أثره إذا نظرت فيه من عدسة المجهر. وهكذا الموسيقى؛ في قدرتك أن تدعي أنها عبارة عن مجرد اهتزازات مادية، وليس لها وجود حقيقي. وكذلك إذا نظرت من تلك الناحية في حب العظمة والشجاعة والفضيلة والشرف ومضاداتها من حب الذات والملاذ والسقوط الأدبي، فإنه في مستطاعك أن تعتبرها حركات خلايا خاصة توجه توجيها معينا، لا أقل من هذا ولا أكثر.
فإذا عمدت إلى النظر في العالم كما ينظر فيه الماديون، موليا بوجهك عن خصائص الإنسان العقلية، وأكببت على تقديس ما ترتكز عليه هذه الخصائص من القوى والمواد الطبيعية وحدها، فإنك لا تقتل بذلك الإرادة وحدها كوجود حقيقي، بل إنك تقضي على الشعر والموسيقى والحقيقة وعلى كل المراتب والفروق الكائنة في العقل بين منازل الفكر والعواطف.
وعلى الجملة تقضي على كل قضايا العقل الإنساني. ولا تترك في الكون من شيء إلا كتلة مواتا وصحراء مجدبة من المادة والحركة. ولما كانت المادة والحركة لا يمكن إدراكهما إلا من طريق الحواس، ففي مستطاعك أيضا أن تنكرهما؛ إذ لا يكون لديك من سبب يحملك على أن تعتقد أن العالم مكون على النموذج الذي توحي إليك به الحواس.
إلى هذا الحد من التهوش والفوضى يكون النظام العالمي في نظرك، إذا تطلعت فيه من هذه الوجهة المادية الصرفة. ومن الظاهر الجلي أننا إذا أردنا أن نرد على العالم نظامه وألفته على مقتضى ما في العقل الإنساني من نظام وألفة، فإن من الواجب أن لا ننظر فيما يمكن أن يثبت أو ينفي نظريا، بل ننظر فيما يمكن الاعتقاد به عمليا. هذا مع علمنا بأن هذه الألفة سواء أكانت مبنية على وجهة النظر المادية أم وجهة النظر الروحية، فإنها أقصى ما يمكن أن نبلغ من صلة بالحق في هذه الحياة.
والمثال: إني مضطر لأن أعتقد بوجود عالم خارج عن حيزي؛ لأتخذ اعتقادي هذا دعامة حقة وأساسا ركيزا في سبيل بحثي عن الحقيقة. ذلك على الرغم من أن الفلاسفة قد ينكرون أن للعالم الخارجي وجودا حقيقيا في ذاته. كذلك أعتقد أن هنالك فرقا قائما بين الفضيلة والرذيلة، وبين سمو المدارك الروحية والشهوات، وبين الأنانية والتضحية، وبين الذاتية والغيرية. ولو أن الماديين إذ يرجعون بهذه المعاني بلا تفريق بينها إلى اهتزازات دقائق غير مختلفة أي اختلاف إنما يلزمون أنفسهم الحجة بحكم العقل، بأن هذه المعاني لا يختلف بعضها عن بعض اختلافا حقيقيا.
أراني أعتقد بوجود حقيقي للذكاء والإدراك والجمال والموسيقى والشعر والحقيقة. ولو أن هذه أيضا يمكن ردها إلى مجرد حركة بعض خلايا لا إدراك ولا ذكاء فيها، وإلى قوات لا تعدو تلك الخلايا إدراكا ولا تبزها معرفة وذكاء.
وعلى هذا النحو أراني مضطرا إلى الاعتقاد بوجود حقيقي لما نسميه «الإرادة». ولو أن الماديين قانعون بأنها ليست سوى عرض يصاحب حركة الدقائق في المراكز العصبية.
فإذا كانت ألفة العقل البشري تتطلب سببا للعالم المرئي، وإذا كل ما في مستطاع اختباري أن يصل من علم بالسبب الأول ينحصر في الفعل العقلي للإرادة التي أشعر وأحس بها، فمن الواضح الجلي أني مقسور بضرورة ألفة عقلي ومقتضياته على الاعتقاد بأن هذا الكون العظيم معلول لإرادة عاقلة؛ أي إلى خالق. وليس من معنى ذلك أنني أعرف أو أعلم أن للخالق وجودا حقيقيا، أكثر مما أعلم أو أعرف أن للعالم الخارجي المحيط به وجودا حقيقيا. إنما كل ما أعلم أو أعرف أني جبلت على أنني لا أستطيع أن أرد على عقلي ألفته وأحتفظ بنظامه، إلا إذا اعتقدت بوجود خالق ذي إرادة حرة عاقلة. وإلا فإن كل معتقداتي الثابتة تنهار وتتحطم ويطمو على سبيل الحيرة والفوضى.
ولست أجد من ضرورة تقضي علي بأن أظهر كيف أن عقلا أو إرادة تكون علة للعالم، كما أني لست أعلم كيف أن دقيقة من المادة تجذب أخرى في حين أنها تدفعها. ومع ذلك فإني مقسور على الاعتقاد بسببية الجذب والدفع، كما أنه ليس في مستطاعي أن أعرف كيف يتحد العقل مع مادة المخ ومع نشاط دقائقه وحركتها. وليس لذلك من علاقة لاتصال العلة بمعلولها أو السبب بالمسبب بالمعنى العلمي؛ لأن ذلك يتطلب الموازنة بين الاصطلاحين، ولا يمكن أن نضع موازنة بين ذلك الشيء الغامض المبهم الذي نسميه العقل، وبين القوة ومادة المخ مثلا.
ويكفي لدي أنني يجب أن أعتقد بحقيقة العلاقة الكائنة بينهما، فلست أعرف مثلا كيف أن إرادتي تكون سببا دافعا لي على إحداث حركاتي البدنية. ولكن يكفي عندي أن أعتقد في حقيقة أن إرادتي تدفعني على القيام بحركاتي الجسمانية، وعلى هذا السنن وعلى هذه القاعدة ذاتها: يكفي عندي أن ألزم بالاعتقاد بوجود خالق، من غير أن أجد نفسي مضطرا لأن أظهر كيف أنه السبب في وجود الأشياء، وكيف أنه علتها.
وفضلا عن كل هذا فإن الكون المادي؛ إذ يقتصر وجوده لدينا على تكوين عقولنا، فليس من الضروري أن أجعل المادة موضع اهتمامي في بحثي وراء الحقيقة، بل أوجه كل همي نحو ذلك الشيء الذي لا يكون للمادة عندي من وجود إلا به؛ أي العقل.
على هذا نجد أن الاعتقاد بوجود الله أو خالق أو مصدر للأشياء أو علة لها أو ما شئت فقل، فرض ضروري يقوم على حاجات العقل ومقتضياته. وعلى هذا الفرض الضروري قس كل بقية الفروض التي لا يمكن للعقل أن يحتفظ بألفته من غير أن يسلم بها، ولا يمكن للعلم أن ينفيها، ولو عجز عن إثبات وجودها بأساليبه الموضوعة. (10) ما بعد الفرض الضروري فرض إمكاني
عرفنا الفرض الإمكاني بأنه الفرض الذي يستوي فيه حدا الوجود والعدم، أو الذي يحتمل أن يكون له حقيقة موجودة، كما يحتمل أن لا يكون له أية حقيقة في الخارج. وذكرنا أن معنى هذا أن العقل إذا سلم بالفرض الإمكاني أم لم يسلم، فإنه يظل محتفظا بألفته كاملة، في حين أن العلم يرفض التسليم بالفروض الإمكانية رفضا باتا صريحا، ما لم تثبت صحتها ثبوتا قاطعا بالأساليب العلمية المعروفة. وعلى مقتضى التحديد والشرح الذي حددنا به الفرض الضروري يمكن أن نتخذ هذا التحديد قياسا، نقيس عليه في التفريق بين الفرض الضروري والفرض الإمكاني.
إذا استطعنا أن نعي هذه المبادئ فلا جرم أننا نستطيع أن نحدد المعقولات تحديدا يجعلها أكثر خضوعا لأحكام العقل وكفاياته، وخرجنا من ظلمات الجدل إلى وضح الطريق العقلي الصرف، نمتع بثمراته ونتخذه قاعدة نبني عليها صرح العلم ونشيد من فوقه بناء الفلسفة والآداب.
وبعد: فهذا تصدير رأينا من الضروري أن يستوعبه كل قارئ قبل أن يمضي في قراءة هذا الكتاب.
قصة الطوفان وتطورها
يعتقد كل الذين درسوا العبرانيات القديمة، وكل من أكب على تحليل سفر التكوين - وهو السفر الأول من توراة موسى
1 - أن القصص التي يتضمنها إنما ترجع في أصلها إلى أسطورتين قديمتين، تخالطتا وتمازجتا مع الزمان وعلى توالي العصور، فتكون منها سفر التكوين الموسوي، الذي يظهر لنا كيف خلق العالم، وكيف خلق آدم، ثم كيف طرد، ثم تكاثر نسله، ثم أغرقه الطوفان في زمان نوح، ثم تكاثر ثانية من بعد ذلك.
وإذا قرأت بقية أسفار موسى، وبالأحرى الأسفار المنسوبة إليه - خروج، لاويين، عدد، تثنية - تجد أنها مزيج من أخبار تاريخية تكثر فيها الأقاصيص، ومواعظ هي بين الأخلاقيات والإرشاديات. وفي جماع هذه الأسفار لا تقع على شيء من انسجام الوضع، ولا من دقة التاريخ، ومن كل هذه الأشياء يذهب دارسو العبرانيات والآثار في سلسلة طويلة من الأبحاث، يستنتجون منها في النهاية أن هذه الأقاصيص جمع وتوليف من أقاصيص وروايات أبعد منها زمانا وأعرق قدما.
يقول المستر ديكسون وايت:
من بين مجموعة النقوش الكاتدرائية، التي تعبر عن كثير من حقائق اللاهوت في العصور الوسطى، نقش يمتاز بالتعبير عن مذهب لاهوتي في أصل الكون، ظل موضع الاحترام والإجلال أزمانا طوالا.
الواحد القهار: في صورة بشرية، جالس بوداعة ولين، يصنع الشمس والقمر والكواكب، ويعلقها في القبة الصلبة التي تحمل من فوقها «السماوات العلا»، وتظلل «الأرض السفلى».
أما علائم التفكير الظاهرة في تقطيب جبينه فتنم على أنه أجهد نفسه إمعانا في التدبر والاستبصار، كما يدل انتفاخ عضلات ذراعيه على أنه قد اضطر إلى أن يكد وينصب. ومن الطبيعي أن يكون المثالون والمصورون خلال القرون الوسطى - وفي بدء العصور الحديثة - قد عمدوا إلى تمثيله على مقتضى ما تصوره كتاب ذلك العصر؛ إذ كانوا يقولون بأنه استراح في اليوم السابع، واضطجع في هدأة، مصغيا إلى تراتيل الثناء التي زفتها إليه سكان السماء.
من حول هذه الفكرات العتيقة التي فاضت بها الكاتدرائيات، وفي غيرها من الآراء التي عبرت عنها النقوش والصور وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والحفر خلال القرون الوسطى، وقرنين فرطا من بعد تلك العصور؛ تكشفت نواة من الاعتقاد كانت قد أخذت تتكون خلال ألوف من السنين، ومضت محتكمة في كل ما أبرز العقل الإنساني من صور الفكر حتى عصرنا هذا.
أما بدايات ذلك الاعتقاد فترجع إلى أعرق عصور التاريخ قدما، فإننا نجدها في أوليات كل مدنية من المدنيات العظمى. بيد أنها شغلت في كل الكتب المقدسة التي ذاعت في نواحي العالم - على تعددها وكثرتها - مكانا عليا، ففي كل المدنيات تقع على فكرة وجود خالق، ليس الإنسان إلا صورة منه غير كاملة، وأنه خلق الكون المنظور بطريقة مباشرة مستخدما في الخلق يديه وأصابعه.
من بين تلك النظريات عدد غير صغير مضى محتكما في اللاهوت الكلداني. ومن الواجب أن نخصه بشيء من العناية والتقدير؛ فإن النقوش الآشورية التي استكشفت حديثا، ونقلها إلى العالم الإنجليزي أعلام من أمثال لايارد وجورج سميث وسايس وغيرهم، لترينا أنه قد تغلغلت في تضاعيف الأديان الكلدانية والبابلية قصة في حقيقة الخلق من أهم مزاياها وأخطر وقائعها، إنها لا بد من أن تكون النواة التي فرخت منها تلك القصص التي نقع عليها في كتبنا المقدسة. ولقد ظهر بأجلى بيان أن تلك الفكرات التي تشغل أعلى مكانة في أسفار العبرانيين، قد استمدت من ذلك النبع الذي فاض على المدنيات الكلدانية البابلية والآشورية والفينيقية بتلك القصص التي وضعت في حقيقة خلق العالم.
ففي تينك القصتين اللتين تخالطتا في سفر التكوين، وفي تلك الرواية التي يمكن أن يستدل عليها بأشياء في سفر «أيوب»
Job ، يتمثل لك بكل ما يستطاع أن تتخيل من العظمة والقدرة، نفس ذلك التصور في حقيقة الخالق والخلق، وهو تصور خليق بالمدنية؛ إذ هي أبعد في مهد طفولتها وغرارتها، فيبرز لك الخالق في صورة بشرية مكبرة، وهو يكد في العمل بأطرافه ويمثل لك الخلق «مصنوعا بيده». ولقد نشأ - تعقيبا على هذا التصور - اعتقاد في الخالق، على أنه شخص بعد أن «قذف من راحة يده إلى الفضاء بكل السيارات لتجوب أنحاء المكان»، جلس في العلاء فوق العرش المستقر «على فلك السماء»، جادا أبدا في أن يحكم سيرها ويهديها طريقها.
وبعد أن يستطرد العلامة «وايت» في وصف كيفية الخلق والمادة التي خلق منها، يعود إلى الكلام في الخلاف على الزمان الذي خلق فيه العالم فيقول:
إن سلسلة الجهود الطويلة التي بذلها رجال خصوا بأوسع المدارك وأرجح الأحلام من إيوسيبيوس إلى يوشر، في سبيل تحديد التاريخ الذي وقع فيه الخلق، قد تركت الكلام فيه لفصل آخر،
2
ويكفي هنا أن نذكر أن النتيجة الأخيرة التي وصلت إليها الأغلبية العظمى ممن يعتبرون من أقدر الذين أكبوا على درس الأقوال التي جاءت في الكتاب المقدس، قد أسلمت إلى القول بأن الخلق قد وقع في زمان تعد سنوه بعدد عشري، ويقع حوالي سنة 4000ق.م.
وفي القرن السابع عشر ذكر الدكتور «جون ليتفوت» - وكيل جامعة كمبردج ومن أشهر من نبغ ممن درسوا العبرانيات - أن نتيجة أبحاثه القصية المستفيضة في التوراة والإنجيل قد أدت به إلى حقيقة أن «السماء والأرض، والمحيط والمركز قد خلقن معا، وفي وقت واحد؛ حيث كان الغمام الكثيف مملوءا بالماء، وأن هذا العمل قد وقع، وأن الإنسان قد خلق بقدرة الثالوث الأقدس، في 23 أكتوبر سنة 4004 قبل الميلاد؛ حيث كانت الساعة التاسعة من الصباح.»
وكان هذا انتصارا لأسلوب «لاكتانتيوس»، وهو نتيجة الدرس العميق في الإنجيل والتوراة مئات من السنين. وغاية لجهد الفكرة اللاهوتية منذ أن ظهر «بيده» في القرن الثامن إلى زمان «فنسنت بوفييه»؛ حيث أعلن في القرن الثالث عشر أن الخلق لا بد من أن يكون قد وقع في فصل الربيع. لكن وا أسفاه! فإنه لم يمض قرنان على ما بذل دكتور «ليتفوت» من جهد في درس العبارات المنزلة ليستخلص منها حقائق يحدد بها ساعة الخلق وتاريخه، حتى استكشف الباحثون أنه في تلك الساعة التي حددها هذا اللاهوتي، كانت أمة من أرقى الأمم مدنية وأمثلهن تهذيبا، رافلة في أبهى حلة خلعتها الحضارات على الأمم في الأزمان القديمة، بل كانت منذ عهد عهيد تجوب أنحاء العواصم المشيدة في مصر على ضفاف النيل، وأن أمما أخرى لا تكاد تقل عن هذه مدنية وعلما، قد بلغن درجة خطيرة من النشوء والارتقاء تحت سماء آسيا.
هذا ملخص أولي من رأي الباحثين في أصل الروايات المقدسة ، على أن علم مقارنة الأديان قد زودنا بالكثير من دقائق الشبه الواقعة بين كثير من الروايات المتناثرة في الكتب الدينية؛ لهذا نعمد إلى المقارنة بين الروايات الثلاث التي نعثر عليها في القرآن والتوراة وألواح بابل وآشور خاصة بسيرة نوح؛ لنستخلص من هذه المقارنة قاعدة نبني عليها حكما صحيحا في أصل هذه الروايات ومنشئها. ويحسن بنا أن ننقل هذه الروايات كما أثبتت في القرآن والتوراة، ونترجم ما يختص بها في ألواح بابل، ثم نمضي بعد ذلك في المقارنة العلمية. (1) الطوفان في القرآن
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين * قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون * وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين * قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (هود).
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا * مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا (نوح).
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (العنكبوت).
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (ص).
إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية (الحاقة).
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر (القمر). (2) الطوفان في التوراة عن سفر التكوين
الإصحاح السادس
وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات؛ فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه هو بشر، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم.
ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه، وإنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أني عملتهم، وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب.
هذه مواليد نوح: كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله. وسار نوح مع الله، وولد نوح ثلاثة بنين: سام وحام ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما، ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض.
فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي؛ لأن الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار، وهكذا تصنعه. ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعا عرضه، وثلاثين ذراعا ارتفاعه، وتصنع كوا للفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق، وتصنع باب الفلك في جانبه، مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى؛ من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها، اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها، وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاما. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله، هكذا فعل.
الإصحاح السابع
وقال الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك؛ لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى، ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى، ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة: ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه الأرض؛ لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة، وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته؛ ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.
ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض، فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك، ذكرا وأنثى، كما أمر الله نوحا.
وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض في سنة ستمائة من حياة نوح، في الشهر الثانى، في اليوم السابع عشر من الشهر. في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء، وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك، هم وكل الوحوش كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها: كل عصفور، كل ذي جناح ودخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة، والداخلات دخلت ذكرا وأنثى من كل ذي جسد، كما أمره الله، وأغلق الرب عليه.
وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض، وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الأرض، وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الأرض، فكان الفلك يسير على وجه المياه، وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء خمس عشرة ذراعا في الارتفاع، تعاظمت المياه فتغطت الجبال؛ فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض، وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات، فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء، فانمحت من الأرض، وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط، وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوما.
الإصحاح الثامن
ثم ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك، وأجاز الله ريحا على الأرض؛ فهدأت المياه وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء، ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا. وبعد مائة وخمسين يوما نقصت المياه، واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر، وفي العاشر من أول الشهر ظهرت رءوس الجبال.
وحدث بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض، ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها، فرجعت إليه إلى الفلك، فلبث أيضا سبعة أيام أخر، وعاد فأرسل الحمامة من الفلك فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها، فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض، فلبث أيضا سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا.
وكلم الله نوحا قائلا: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد: الطيور، والبهائم، وكل الدبابات التي تدب على الأرض، أخرجها معك، ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض، فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات، كل الدبابات وكل الطيور، كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.
وبنى نوح مذبحا للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: «لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان؛ لأنه تصور قلب الإنسان شريرا منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت مدة كل على الأرض: زرع وحصاد ، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال.»
الإصحاح التاسع
وبارك الله نوحا وبنيه وقال لهم: أثمروا واملئوا الأرض، ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك البحر، قد رفعت إلي أيديكم كل دابة حية تكون لكم طعاما، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع، غير أن لحما بحياته، دمه، لا تأكلوه، وأطلب أنا دمكم لأنفسكم، من يد كل حيوان أطلبه، ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه، سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه؛ لأن الله على صورته عمل الإنسان، فأثمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.
وكلم الله نوحا وبنيه معه قائلا: وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومعه نسلكم من بعدكم، ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم: الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم، من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض، أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان، ولا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض. وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم، وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر، وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض، فيكون متى نشر سحابا على الأرض، وتظهر القوس في السحاب. إني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد، فلا تكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض.
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافثا، وحام هو أبو كنعان، وهؤلاء الثلاثة هم بنو نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض.
وابتدأ نوح يكون فلاحا، وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه؛ فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم.
وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فكانت كل أيام نوح تسعمائة وخمسين سنة، ومات. (3) الطوفان في أساطير آشور وبابل
أسطورة الطوفان في ألواح بابل وآشور قسم من قصة حماسية بطلها شخص يدعى «غلغامش»
Gilgamesh ، منقوشة بالخط المسماري في اثني عشر لوحا. وتعتبر قصة «غلغامش» الشعرية في صف واحد مع قصة الخلق البابلية من حيث القيمة الأدبية بين كل ما خلف أهل بابل من الآثار. أما عناصرها المكونة لها فجمع بين كثير من المادة الميثولوجية استمدت من منابع كثيرة. ويجوز أن يكون لها أصل تاريخي تعود إليه نشأتها، ومن مجموع المادة الميثولوجية وتلك الأصول التي يرجح البعض أن القصة ترتكز عليها، نسجت هذه الأسطورة فأصبحت قصة واحدة مؤتلفة الوقائع والحوادث، وكلها تدور حول البطل «غلغامش» أمير «أرك»
Erech . أما المرجع الذي استمد منه الباحثون أصول هذه القصة فهو على الأخص بقايا الألواح المشوهة التي عثر عليها في مكتبة «آشور بانبال»
Assur bani-pal ، غير أن كثيرا من الشواهد والملاحظات التي عثر عليها الأرخيولوجيون تدل على أن بعض تقاليد هذه القصة على الأقل، إن لم تكن كلها إنما ترجع إلى عهد أبعد بكثير من عهد «آشور بانبال»؛ فإنك تجد مثلا أن لوحا يرجع تاريخه إلى 2100 سنة ق.م يحتوي على قصة في الطوفان هي بذاتها التي أدمجت في قصة «غلغامش»، وذكرت في اللوح الحادي عشر من ألواحها. والراجح أن هذه القطعة وغيرها من المقاطع التي تتكون منها هذه الأسطورة قد تنوقلت بالرواية التقليدية أزمانا طويلة قبل أن تنقش على هذه الألواح؛ أي إنها ترجع إلى العهد السومراني
Sumerian Period .
كان «آشور بانبال» من أكثر الملوك عناية بالأدب ومن حماة الثقافة، فقد جمع في مكتبته العظيمة بمدينة «نينوه »
Nineveh ، (وهي المكتبة التي نقل نواتها الملك «سنكريب»
Senanchrib
من بلدة كالح
Cala ) خزانة عظيمة من المجلدات والألواح الكلسية وأوراق البردي، نقل معظمها كغنائم حربية من البلاد التي غزاها، واستأجر النساخ لينقلوا له صورا من المتون القديمة، وإلى هذه الطريقة على ما يظهر يرجع السبب في تسطير قصة «غلغامش» الشعرية. ولقد يظهر من القطع والأجزاء المحفوظة الآن في دار العاديات الإنجليزية أن أربع نسخ من هذه القصة على الأقل قد نقلت في عصر «آشور بانبال»، غير أن الحوادث لم تبق على هذه النسخ من غير أن تتناولها بالتبديد والتخريب؛ فإن الإمبراطورية الآشورية كانت آخذة في سبيل الفساد والانحلال بسرعة. ولم يمض زمن طويل حتى سقطت «نينوه» وتبددت مكتبتها الكبرى، في حين أن المغتنمين قد أحرقوا لفائف البردي، ودفنوا الألواح الكلسية مع أنقاض القصر الذي كان يحويها.
وهنالك ظلت هذه الألواح ألفين من السنين حتى أدركها سير أ. ه. لايارد ومستر جورج سميث بتقنياتهما، فأخرجاها إلى الناس مرة أخرى. ولا مراء في أن الألواح الاثني عشر التي تتضمن قصة «غلغامش» (أو أجزاءها الباقية منها والتي استكشفت حتى الآن) مشوهة تشويها كبيرا. فقد تجد أن معنى فقرة برمتها قد غمض وتعذر فهمه بفجوة حادثة في المتن الأصلي. ولا جرم أن مثل هذه الفجوات ليست بالشيء التافه عند الذين يريدون أن يدرسوا الأساطير الميثولوجية درسا وافيا، ويقفوا على تفاصيلها بدقة تفي بأغراض البحث العلمي. غير أنه على الرغم من كل هذا، فإن علم مقارنة الأديان قد تقدم في العهد الأخير إلى درجة أصبحنا معها أقدر على أن ندرك من أهمية هذه القصة الشعرية الميثولوجية، وأن نقرأها بدقة لم يبلغها البابليون أنفسهم؛ لأنهم لم يعرفوا من هذه القصة إلا أنها مجرد رواية للمخاطرات والأفعال العظيمة التي قام بها أحد أبطالها.
إن القصة الشعرية التي تدور حوادثها حول مدينة «أريخ»، قد سيقت في مخاطرات بطل نصف إنسان ونصف إله يدعى «غلغامش»، كان ملكا في تلك المدينة. وفي القصة شخصيتان أخريان هما: شخصية «إيباني »
Eabani ، وهي الشخصية التي تمثل الإنسان البدائي على الأرجح، وشخصية «أوت-نابشتيم»
Ut-napishtim
بطل رواية الطوفان البابلية. ويرجح أن كلا من هؤلاء الأبطال الثلاثة كان محور مجموعة من الأساطير التقليدية، تدامجت بعضها في بعض مع مضي الزمان، بطريقة ما من الطرق، وعلى أسلوب غير بين تماما.
أما أكثر شخصيات هذا الثالوث أهمية وأولهم من حيث القيمة فالبطل «غلغامش»، ولا يبعد أن يكون شخصا حقيقيا عاش خلال عصر من عصور بابل، غير أنه ليس لدينا من التاريخ الثابت ما يؤيد هذا الزعم، كما أنه يحتمل أن تكون مجازفات أحد ملوك مدينة «أرك» في العصور القديمة قد اتخذت نواة بنيت عليها هذه القصة. أما اسمه فقد نطقه الباحثون «غزدبوبار»
Gisdbubar
أو «إزدوبار»
Izdubar ، غير أنه قد عرف الآن أنه كان ينطق «غلغامش»
Gilgamesh
كما حقق ذلك العلامة «بنشيز»
. أما الاسم فلا يدل على أنه كان «بابلي» الأصل، بل يرجح أنه كان «عدلامي»
Elamite
أو «قسي»
Kassite
أصلا ودما. ويتضح من بعض الإشارات التي يعثر عليها في الألواح أنه غزا «أرك» (أو أنه أنقذ المدينة من جيش محاصر لها)، عند بدء مخاطراته التي تتكون منها الأسطورة، وزعم البعض أنه بذاته «النمرود» الذي ذكرته الأناجيل، وهو كالآخر بطل من أبطال بابل القديمة. غير أن هذا الزعم لا يقوم على أدلة مقنعة.
هذا كل ما يمكننا أن نقول إنه وصلنا تاريخيا عن «غلغامش». أما شخصيته الميثولوجية فأقل تعقيدا وأسهل فهما. فهو في الأساطير البابلية عبارة عن الشمس متجسدة في صورة إنسان، في حين أن حقيقته - على ما أجمع المؤرخون - تنحصر في أنه مزيج من كائن خرافي وبطل وطني، تدامجا لتخرج منهما شخصية أسطورية، فإنك تجد في خلال القصة وفي كثير من مواضعها إشارات تدل على أن «غلغامش» كان نصف إنسان ونصف إله. ولو أنك لا تقع على شيء محدود ينص على هذه المسألة بالذات. وفرق ما بين الإشارة والنص الحرفي وحقيقته باعتباره «إله الشمس»، مستورة بألغاز خلال القصة، ولو أنه من الجلي أن له علاقة بالإله «شاماش»
Shamash ، الذي يقدم «غلغامش» إليه خضوعه ويخصه بصلواته، والذي يتخذه حاميا ونصيرا.
مولد غلغامش
من بين الأساطير المتناقلة عن مولد «غلغامش» أسطورة رواها «آليان»
Aelian (راجع
Historia animalium XII )، وسماه «غلغاموس»
Gilgamos
بن «سوقاروس»
Sokkaros . أما «سوقاروس» فيقول «بيروسوس»
Berossus : إنه أول ملك حكم بابل بعد الطوفان، وإن النذر الربانية قد أنذرته بأن ابنته سوف تلد طفلا ينزله عن عرشه ويستأثر به. ومن أجل أن يدفع عن نفسه القدر المقدور، سجنها في برج منيع، وأقام عليها الرقباء والحراس، غير أنها على الرغم من هذا ولدت ولدا، بيد أن الحراس ليقينهم بأن غضب الملك سوف يكون شديدا إذا علم بمولد هذا الطفل، ألقوا به من أعلى البرج إلى الخارج، ولم يصل الطفل إلى الأرض، بل التقطه نسر عظيم قبل أن تصدمه الصخور، وطار به إلى الحديقة؛ حيث التقطه فلاح كان يعمل بها وقام عليه بالرباية والعناية الواجبة. فلما بلغ هذا الطفل مبالغ الرجال، أصبح ملكا على كل البابليين، بأن اغتصب عرش جده عنوة واقتدارا.
هنا نقع على أسطورة يظهر كل الظهور أن لها علاقة بالشمس، وأنها تتفق كل الاتفاق جملة وتفصيلا مع صور أسطورية أخرى مستمدة من ألوهية الشمس، ولا يمكن أن يكون مجرد الاتفاق والمصادفة سببا في أن تلصق هذه الأسطورة بغلغامش؛ فإن كل ما في القصة يدل على اعتقاد ثابت بأن «غلغامش» من آلهة الشمس، وعلاقته «بشاماش»
Shamash
الذي لا يبعد أن يكون أباه ارتكانا على الأسطورة التي رواها «آليان»، وكذلك النسر الذي أنقذه من الاصطدام بالأرض لدى إلقائه من أعلى البرج، أضف إلى ذلك أن كل الأسطورة خلو من ذكر أبيه، في حين أن أمه قد ذكرت مرات عديدة، وأن روح القصة من أولها إلى آخرها يرمي إلى الإشارة بأنه أكثر من إنسان.
أما وقد استطعنا أن نعرف شيئا عن حقيقة شخصيته الميثولوجية، فلا يصعب علينا بعد ذلك أن نستدل من مخاطراته على مطابقة تناظر سير الشمس يوميا (أو سنويا)؛ إذ تكون في عظمتها وقوتها لدى الظهيرة (أو في منتصف الصيف)، ثم تنحدر إلى المغيب تلقاء الأفق الغربي، لتعود من بعد ذلك مرة أخرى إلى مآهل الناس . وهو ككل آلهة الشمس - إذ تكون كالشمس نفسها - من حيث مولدها وأصلها، محفوفة بالأسرار محوطة بالألغاز، وهو كذلك شخصية تمثل أحد «الأولاد المنحوسين»، مثل «سرجون» و«فرساوس»، فإنه إنما يظهر في الرواية لأول مرة بطلا كامل أوصاف البطولة، حاكما مستبدا بمدينة «أرك». أما أمه «ريمات-بليت»
Rimat-balit
فكاهنة بمعبد «عشتار»
Ishtar ، وهو من طريقها أحد خلائف «أوت-نابشتيم»، أحد أهالي «شوريباك»
Shurippak ، وبطل رواية الطوفان البابلية.
وفي أول القصة تقع على علاقته بالرجل المتوحش «إيباني»، وهو رجل خلقته الآلهة وصورته من أجل أن يحطم «غلغامش» ويذهب بريحه، غير أن الصداقة تقوم بينهما مقام العداء، ويذهب الاثنان معا ليحاربا «المسخ خومبابا»
Khumbaba
فينتصران عليه! كما ينتصران أيضا على الثور المقدس الذي يرسله عليهما الإله «عانو»
Anu . ويستمر انتصارهما تاما متتابعا حتى نهاية اللوح السادس، وتستمر قوة «غلغامش» في الازدياد كالشمس إذ تقارب الأوج.
وفي أول اللوح السابع يأخذ سعده في الأفول، فيموت «إيباني» إذ يقتل تحت تأثر غضب «عشتار»، بعد أن يرفض «غلغامش» حبها باحتقار ويردها بازدراء. وهنا يحزن «غلغامش» على موت صاحبه حزنا شديدا، ويداخله الخوف من أن يموت كما مات رفيقه، فيصمم على الذهاب باحثا وراء سلفه «أوت-نابشتيم» (على اعتبار أنه الشخص الوحيد الذي نجا من الطوفان، مسحته الآلهة بمسحة الألوهية ووهبته الخلود)؛ ليعرف منه سر الحياة الخالدة. أما مخاطراته التي يصادفها في هذه السبيل فليس عليها من صبغة العظماء ما كان لمخاطراته الأولى، فيتجه نحو الشمس ميمما شطر «جبل الغروب» ويقتحم طريقه من بين «العقاربة» (رجال أشبه بالعقارب)
Scorpion-Men ، ويعبر بحر الموت. أما «أوت-نابشتيم» فيلقنه أن الناس لا بد من أن يموتوا أجمعين ما عداه هو؛ لأنه مستثنى منهم لظروف شاذة.
وعلى الرغم من أنه بعد ذلك يهيئ «غلغامش» بفرصة أن يأكل من «شجرة الخلود» فإنه يفقد الفرصة، ثم يشفي «أوت-نابشتيم» «غلغامش» من مرض ينزل به عندما كان يعبر «بحر الموت»، ثم يعود بعد ذلك إلى مدينة «إريخ»، وفي هذه الأعمال تتخيل كيف تنحدر الشمس نحو المغيب إلى العالم السفلي، عندما تميل نحو «جبل الغروب»، كذلك يستحيل على الشمس أن تكسب الخلود وأن تظل أبد الآبدين مشرقة على أرض الأحياء، إنها لا بد من أن تعبر «بحر الموت» وأن تختفي في العالم السفلي.
غير أن عودة «غلغامش» إلى «إريخ» تمثل تنفس النهار مرة أخرى، وفي هذا معنى الصراع الدائم بين الليل والنهار، والصيف والشتاء، فالظلمة قد تغزو النور، غير أن النور لا بد من أن يبرز منتصرا مرة أخرى، والصراع دائم لا نهاية له.
ولقد رأى بعض الثقات أن في تقسيم القصة إلى اثني عشر لوحا علاقة بأشهر السنة أو بمناطق البروج، ولا يبعد أن يكون لهذا التقسيم علاقة بهذه الفكرة، ولكننا إذ نرى أن تقسيم القصة وضعيا في ألواح قلما يتفق مع تقسيم القصة الطبيعي، فالظاهر أن الصيغة الاسترلوجية (التنجيمية) لهذا التقسيم هي من وضع نساخ نينوه
Ninoveh ، الذين يظهر أنهم أجهدوا أنفسهم كل جهد في سبيل تقسيم القصة على هذه الصورة.
إيباني
إن أعظم ما في أسطورة «غلغامش» من الصور الميثولوجية المتنافرة هي تلك الصورة التي يمثلها «إيباني»، وهو الشخصية التي تمثل الإنسان البدائي الذي يعيش مع وحوش البرية كواحد منهم. غير أنه على لما يرى بعض الثقات صورة أخرى من صور إله الشمس، قد تقارب في أهميتها شخصية «غلغامش» نفسه، فهومصدر خوف وخشية فيخفف كبطل «أرك» يرتفع إلى الأوج الأعلى من القوة والسلطة منظومة في سلسلة متتابعة من الانتصارات، ثم يسقط آفلا إلى الدنيا السفلي، وهو على ذلك لا يفنى فناء تاما، أو تزول صورته زوالا كاملا، بل تبقى ذكراه حية في مخيلة «غلغامش». وهو في اللوح الثاني عشر يعود إلى هذه الدنيا لا بذاته بل بشبحه
utukku ، وتلك مسألة قد يمثل بها لعودة الشمس صبيحة كل يوم، بعد أن تكون قد تردت في العالم السفلي.
أما الصورة الميثولوجية الأخرى فهي الصورة التي تمثل «أوت-نابشتيم» وهو «نوح البابلي». وبينا نجد أن القصص الدائرة حول شخصية «إيباني» وشخصية «غلغامش» قد تدامجتا بعضها في تضاعيف بعض ، وإن كان في مستطاعنا حتى الآن أن نميز بينهما ونفرق بين عناصرهما، فإن أسطورة الطوفان وبطلها «أوت-نابشتيم» قد أدخلت في اللوح الحادي عشر من ألواح القصة كرواية رواها «أوت» نفسه لغلغامش. وعندما يظهر «أوت» لأول مرة على مرسح القصة، يظهر مزودا بكل صفات الآلهة وقواتهم وسلطانهم، تلك الأشياء التي خلعها عليه الآلهة جزاء وفائه لهم، أثناء الطوفان الذي أغرقت مياهه كل أفراد النوع البشري ما عداه. ويلوح لنا أن المقصود من رواية الطوفان ومزجها بقصة «غلغامش» الإشارة إلى البطل الكبير بأنه لا ينجي الإنسان من حتفه المحتوم إلا ظروف استثنائية، بل ظروف نادرة جدا في الحياة.
وفي القصة صور ميثولوجية أخرى بينة المقاصد، منها وقعة «غلغامش» مع المسخ «خومبابا»، وحب «إشطار» لغلغامش، والقتال مع الثور المقدس الذي أرسله «عانو» الإله، والبحث وراء شجرة الحياة. وهذه الصور مهما كان أصلها ومهما كان منشؤها، فإن الحقيقة أنها أدمجت في قصة «غلغامش» إدماجا. وعلى الرغم من العناصر التاريخية والميثولوجية التي تقع عليها خلال هذه العصور، فإن فيها قدرا غير ضئيل من مذاهب بابل الدينية، تظهر بجلاء في اللوح الحادي عشر (وفيه إشارة إلى أن كل الناس لا بد من أن يأتيهم الموت)، ولكن ذلك لا نقع له على أثر في اللوح الثاني عشر؛ حيث يظهر شبح «إيباني» لغلغامش، ويروي له ما يرى الموتى المدفونون تحت الثرى من إرهاق، أو أولئك الذين لا يعنى بهم أهلهم بعد موتهم، وزعمه بأن عناية الأحياء بالموتى هي السبيل الأوحد الذي يمكنهم من أن يفلتوا من الآلام المحمضة التي يصادفونها في العالم السفلي.
أما إذا أردنا أن نمتحن قصة «غلغامش» كما وصلتنا من البقايا المتناثرة التي حفظت في ألواحها، فإنا نجد أن اللوحين الأول والثاني قد شوها تشويها كبيرا، وليس لدى المنقبين من بقاياهما إلا قطع متناثرة غير مجموعة في مكان واحد، كما أنه يستحيل عليك أن تحكم على تلك القطع أيها من اللوح الأول وأيها من اللوح الثاني. كما أنه يتعذر عليك أن تحكم أين ينتهي الأول وأين يبدأ الثاني. وفي قطعة من هذه القطع قد تقع على ما يجعلك تحدس بأنه بدء اللوح الأول؛ إذ يدخل بك في تصدير يعرفك به مقدار الفائدة التي تجنيها من اطلاعك على محتويات اللوح، معددا لك إياها في جدول طويل. وبعد ذلك تأتي قطعة أخرى يستحيل عليك أن تعين موضعها من اللوح، وفيها وصف لحصار وقع لمدينة «أرك»، غير أنك لا تقع في هذه القطعة على ذكر «غلغامش». وفيها أيضا وصف مستفيض للآلام والمصائب التي عانتها «أرك» تحت الحصار، وإليك شيء من هذا الوصف:
وطأت الأتن أولادها إلى الحضيض، وفرت الأبقار صغارها فوق الثرى بأقدامها، والرجال يزأرون كالسوائم، والعذارى ينحن محزونات كالحمائم. لقد تبدلت آلهة «أرك» الشامخة الأسوار إلى ذباب هائم، يئز بأجنحته في الطرق والممرات، وأرواح «أرك» الحصينة المسورة قد انقلبت أفاعي تنساب في الجحور. لقد حاصر العدو «أرك» ثلاث سنوات، والأبواب مغلقة والمنافذ مقفلة، كل هذا و«عشتار» في سباتها لا ترفع رأسها أمام العدو.
فإذا صح يوما من الأيام أن هذه القطعة جزء من قصة «غلغامش»، فإنا ولا شك نعجز عن أن نحكم في «غلغامش»: أكان صاحب الحصار أم رافعه؟ أم أن له بهذه المسألة أية علاقة على وجه الإطلاق.
غلغامش مستبد
والآن نبدأ في شرح هذه القصة الشعرية، كما تبدأ على بقايا لوح من الألواح، يقول فيه بعض ثقات الباحثين إنه بدء اللوح الثاني، ولكن آخرين يرجحون أنه جزء من اللوح الأول. وفي هذا الطور نجد «غلغامش» يلعب على مرسح القصة دورا مزدوجا؛ إذ يظهر كأنه ملك على «إريخ» مستبد بأهلها. على أن مظهر الاستبداد غير جدير ببطل، بل إنه ليس من أخلاق الأبطال في شيء، وليس هنالك ذكر لحصار، كما أنك لا تعثر على شيء يستدل منه على المصدر الذي جاء منه «غلغامش»، على الرغم من أن الأرجح أنه جاء «أرك» كفاتح غاز.
ولدينا على صحة هذا الترجيح دليل هو استبداده بأهل المدينة، ففي هذا المظهر ريح الفتح والغزو عنوة. فقد سخر الفتيان في بناء حائط أو جدار عظيم ، واستأثر في بلاطه بأكثر الفتيات جمالا وأشدهن فتنة. إنه «لم يترك الصبي لأبيه، ولا الفتاة لخطيبها، ولا الزوجة لزوجها.» وفي النهاية فزع أهل المدينة إلى الآلهة من اسبتداد «غلغامش»، وصلوا للآلهة «آرورو»
Aruru
بأن تخلق بطلا شديد البأس قوي الأصلاب يدفع عن ظلامتهم، ويرد عنهم العسف والجور، وأن يكون «لغلغامش» مصدر خوف وخشية فيخفف عنهم، ويروح عليهم شيئا ما، فلا يبطش بهم كل البطش، وضم الآلهة صلواتهم إلى صلوات المظلومين المرهقين استبدادا. وفي النهاية وافقت «آرورو» أن تخلق بطلا يناوئ «غلغامش» ... ثم تتصل القصة:
ولما سمعت الآلهة «آرورو» هذه الكلمات صورت في ذهنها بطلا يكون على صورة «عانو»، وغسلت «آرورو» يديها، وأخذت قطعة من صلصال كالفخار فكسرتها، ثم نبذتها إلى الأرض، وبذلك تم خلق البطل «إيباني».
ولما تم خلق هذا الشخص ظهر في صورة رجل متوحش يقطن الجبال والحراش، «فكان كل جسمه مغطى بالشعر الكثيف، بل كان مكسوا بشعر طويل كشعر النساء، وكان شعره ناميا قويا كشعر إله القمح، ولم يكن يعرف الأرض التي خلق من فوقها، ولا الناس الذين هبط عليهم، فكسي بأكسية تشابه أكسية إله الحقول، ومع الغزلان أكل العشب، ومع السوائم أروى عطشه ونقع غلته، ومع حشرات الماء رقص قلبه طربا.»
ولقد عثر على خراطيش وأختام أسطوانية منقوشة، مثل فيها «إيباني» كأنه مسخ - ساتير - له رأس إنسان وذراعاه وجسمه، وقرنا وحش وأرجله وأذناه. وكما رأينا من قبل نجد هنا أن هذا الرمز إنما يمثل الإنسان الحيواني - البدائي - يسرح مع السوائم في الحقول والأحراش، وهو على جهل تام بكل ما في المدينة من طارف وتليد.
خدعة إيباني
هنا يدخل في القصة عنصر جديد، هو عبارة عن شخصية «تسايدو»
Tsaidu
القناص. ويرجح أن هذه الشخصية قد سخرتها الآلهة لتتم اللقاء بين «غلغامش» و«إيباني». أما كيف قابل إيباني لأول مرة فليس بظاهر لتشوه كبير واقع في اللوح الأصلي. وقد قرأ البعض هذه القطعة المشوهة فقالوا بأنها تودي معنى أن ملك «أرك» لما علم بالمؤامرة التي دبرها الآلهة لكي ينزلوه عن عرشه ، أرسل «تسايدو» ليجوب في أنحاء الجبال والوديان باحثا عن «إيباني»، وقد حضه على أن يحيط به بكل الوسائل ويأتي به مكبلا في الأغلال إلى مدينة «أرك».
وقرأ البعض هذه القطعة فرجح عندهم أن اللقاء كان اتفاقا، ومهما يكن من هذا الأمر، فإن «تسايدو» رجع إلى «إريخ» وقص على «غلغامش» نتيجة تجاربه مع «إيباني»، وذكر له قوة الرجل المتوحش البالغة، وسرعته في العدو وقطع المسافات البعيدة في أقرب حين، وكذلك أخبره عن الخجل الشديد الذي يتولاه عندما يلتقي بأحد من أبناء النوع البشري، ومن الجلي أن «غلغامش» لا بد من أن يكون قد تأكد من السبب الذي أرسل الآلهة من أجله «إيباني»، فيحاول أن يفسد ما صمم عليه الآلهة بأن يلتقي شخصيا بالرجل المتوحش، وأن يضع لهذا اللقاء تصميما، فيأمر «تسايدو» بأن يعود إلى الجبال وأن يأخذ معه «أوخوت»، وهي إحدى الفتيات المقدسات التابعات لهيكل «عشتار».
أما غرضه فكان أن تلتقي «أوخوت» به وتتمكن بأخاديعها أن تأتي به إلى «أرك»، وعلى هذا يخرج القناص والفتاة، وتمضي القصة:
يسلكان الطريق المستقيم من غير أن ينعطفا يمنة أو يسرة. وفي اليوم الثالث يصلان إلى المكان الذي اعتاد «إيباني» أن يشرب منه، ويستخفي «تسايدو» والفتاة، ويظلان حيث هما يوما ثم يومين، على مقربة من مكان الاستسقاء، ثم يقدم «إيباني».
وهنا تمضي القصة في وصف طويل للقاء بين «إيباني وأوخوت»، ولم تجد «أوخوت» من صعوبة في أن تجذب إيباني إليها بجمالها الفتان. وظل «إيباني» ستة أيام وثماني ليال لا يتذكر شيئا، ولا يعرف شيئا من أخذته الأولى التي أخذها بجمال «أوخوت» وحبها الذي تملك كل قلبه، وبعد أن عاد إلى رشده تفقد غزلانه وقطعانه التي كانت تتبعه أينما سار، فوجد أنها لا تتبعه كما كانت تتبعه أولا، فخر يأسا تحت قدمي «أوخوت»، وهنا تخبره عن مدينة إريخ وعن ملكها:
إنك جميل يا إيباني! إنك أشبه بالآلهة! لماذا تبقى في الوديان تذرعها مع وحوش البرية وسوائمها؟ تعال معي؛ فإني سأقودك إلى «أرك» الحصينة ذات الأسوار القوية ، إلى القصر اللامع، مقر «عانو» و«عشتار»، إلى قصر «غلغامش» الكامل القوة، والذي يخضع البشر بقوته العظمى، كما يخضعهم ثور الجبال.
ووجد «إيباني» في كلام «أوخوت» حلاوة وقصدا محببا، فرغب في صداقة «غلغامش»، وصارح أنه راغب في أن يتبع الفتاة إلى مدينة «إريخ»، وبذلك بدأت رحلة «تسايدو وإيباني وأوخوت» إلى المدينة.
غلغامش يلتقي بإيباني
وكان عيد «عشتار» قائما عندما وصلوا إلى «أرك». ولقد سبق إلى وهم «إيباني» أنه لا بد من أن يشتبك في معركة مع «غلغامش» قبل أن يفوز بصداقة هذا البطل، غير أنه أنذر (ولا ندري إن كان الإنذار قد أتاه من طريق الرؤيا أو من طريق أوخوت) بأن «غلغامش» أقوى منه، وأنه فوق ذلك صفي الآلهة، فرجع عن فكرة العراك ... حدث ذلك في الوقت الذي رأى فيه «غلغامش» رؤيا فسرتها له أمه «ريمات-بليت»
Rimat-Belit
بأنها تدل على قدوم «إيباني». أما الجزء الذي يروي لقاء غلغامش وإيباني فمع الأسف مفقود، غير أننا نعرف من القطع التي نستمد منها القصة بأنهما تلاقيا وتصاحبا.
والظاهر أن الأجزاء التالية لهذه من القصة تابعة للوح الثاني، وفيها نجد «إيباني» حزينا كئيبا يندب حريته الأولى، وينحي باللائمة على فتاة المعبد التي أغوته على أن يأتي إلى المدينة. على أية حال نجد أن «شاماش» - إله الشمس - يتدخل في الأمر (والظاهر أن هذا التدخل كان من طريق رؤيا؛ فإن الأحلام تلعب دورا هاما في كل أجزاء القصة)، ويظهر «لإيباني» كل الفوائد التي جناها من قدومه والتحاقه بالمدينة وأهلها، ويجتهد بالترغيب والتمني أن يحمله على البقاء في «أرك»، فيقول:
هذا غلغامش صديقك وأخوك، سيعطيك عربة عظيمة لتنام فيها مهيأة بكل المعدات الضرورية، وسيخصص لك مقعدا عن شماله، وتقبل ملوك الأرض قدميك.
فيقتنع «إيباني» في الظاهر، ويكف عن الشكوى من محيطه الجديد، ويخضع راضيا عما سبق له في القدر.
أما الأجزاء الباقية من أجزاء اللوح فتظهره لنا مشغولا بحلم آخر. وفي نهاية هذا الجزء من القصة نجد البطلين قد صمما على القيام بحملة ضد المسخ «خومبابا»، حارس موطن الآلهة «إرنينا»
Irnina (وهي صورة من عشتار) في غابة السيدر.
وفي اللوح الثالث - رغم تشوهه الكبير - يظهر البطلان وقد ذهبا لاستشارة «ريمات-بليت» أم «غلغامش»، ومنها يطلبان الحماية من «شاماش» في حملتهما التي أزمعا عليها؛ فتنصح الراهبة العجوز ولدها صاحبه عن الطريق التي يسلكان، وترفع يديها إلى إله الشمس وتطلب منه العون «لغلغامش»:
لماذا أنزلت الاضطراب على قلب ولدي «غلغامش»؟ استأثرت به، وسوف يذهب بعيدا في سياحة طويلة إلى حيث يقطن «خومبابا»، ولسوف يشتبك معه في معركة ليس يعرف ماذا ستكون نتيجتها، وسيسلك طريقا لم يعرفها، فحتى يصلك وحتى يعود، وحتى يغشى غابة السيدر، وحتى يقتل المسخ «خومبابا» الفظيع، ويطهر الأرض من الأرجاس التي تكرهها، وحتى يوم رجوعه إلي اجعل عين «آيا»
Aya
صفيتك توجهه إليك على الدوام.
وهنا ينتهي هذا الدعاء المملوء حرارة، الفائض بالروعة والجلال.
المسخ خومبابا
في اللوح الرابع وصف للمسخ الذي كان البطلان على وشك مقاتلته؛ فإن «خومبابا»
Khumbaba
الذي أقامه الإله «بعل»
Bel
على حراسة شجرة «السيدر» - وهي شجرة معينة من السيدر أكثر ارتفاعا وتقديسا من بقية أشجار الغابة - لخلق في البشاعة وقبح المنظر قائما برأسه، وكان مجرد وجوده في الغابة يصيب الذين يلجونها من غير أن يروه بالضعف وانحطاط القوى. ولما يدنو منه البطلان يشكو «إيباني» ضعفا يحسه في يديه وارتخاء في ساعديه، غير أن «غلغامش» يستحثه بكلمات التشجيع.
وليلاحظ هنا أن اسم «خومبابا» من أصل «عيلامي»
Elamite ؛ نسبة إلى القبيلة المعروفة. وهذه الحقيقة قد ساقت بعض الباحثين إلى القول بأنه - المسخ - واحد مع أسرة «عيلامية» قديمة، كانت قد استقوت على مدينة «أرك» وحكمتها، وأن هذه الأسرة قد اختفت آثارها التاريخية منذ سنة 2250ق.م على أنه من الصعب - إن لم يكن من المتعذر - أن تستكشف العلاقة الواقعة بين قصص ميثولوجي، وحقيقة تاريخه محدودة الحوادث. غير أن أقصى ما يمكن الاستدلال عليه من مثل هذه الحقيقة، هو وجود نزاع أو عداء بين «عيلام» و«بابل». •••
فإذا انتقلنا إلى الأجزاء التالية من الألواح، كنا في اللوح الخامس؛ فإن البطلين وقد وصلا إلى جبل مخضوضر خصيب، يجلسان في هدوء ليلقيا بنظرة على «غابة السيدر»، ولما يلجان الغابة يحلم أحدهما أو كلاهما بمقتل «خومبابا»؛ ولذلك يقدمان إلى العراك مسرعين، غير أنه من الأسف لم يبق من اللوح تلك القطع التي تصف صورة المعركة. أما مقتل «خومبابا» فيستدل عليه من الألواح التالية.
عشتار وحبها لغلغامش
في اللوح السادس الذي يروي قصة حب عشتار «لغلغامش»، وقتل الثور المقدس، يلازم الانتصار البطلين. غير أننا في الوقت ذاته نقع على الأسباب التي تعزو إليها هذه الخرافة سر ما يلقيان من النحس وسوء الطالع، فتجد أن غلغامش بعد أن يقتل «خومبابا» ويقفل عائدا إلى «أرك» يذيع صيته ويرتفع ذكره؛ ولذا ينبذ الثياب الملطخة بالوحول المجللة بدماء فريسته، ويرتدي ثيابا لا يرتديها إلا الملوك الفاتحون، وتقع عليه عينا «عشتار» وتراه في أبهة الملك وعظمة السلطان، وزهرات الانتصار تزين جبينه وتكلل رأسه، فيلتهب قلبها حبا وتهيم به غراما، وبكلمات ملئن حرارة وعاطفة، تمت إليه أن يكون بعلها، وتعده بأنه إذا دخل منزلها - حيث يقوم في جوف غابة السيدر المظلم - فإنها سوف تفعمه بعطاياها وتبهره بهباتها، وأن قطعانه سوف تزيد، وأن خيوله وثيرانه سوف لا يكون لها نظير، وأن نهر الفرات سوف يقبل رجليه ويخضع له، وأن الملوك والأمراء سوف يخضعون له ويقدمون له الإتاوات.
غير أن «غلغامش» وكان يعرف شيئا عن تاريخ هذه الإلهة المملوءة بالشهوة المشبوبة بالعاطفة، قد رفض حبها باحتقار، وبدأ يهمس بها سرا وعلنا. ولقد ذكرها بما فعلت مع غيره ممن أحبوها من قبل، ذكرها «بتموز»
Tammuz
زوج صباها، وكانت قد علقته وبكت من أجله السنين الطوال، وذكرها «بعالالو»
Alalu
النسر الكاسر، وذكرها بالراعي «طابولو»
Tabulu
و«إيزولانو»
Isullanu
بستاني أبيها؛ فإنها قد سخرت من هؤلاء جميعا وأساءت معاملتهم بصورة لم يسبقها أحد إليها قسوة وصلابة قلب، وأظهر لها خوفه من أن يكون نصيبه منها كنصيب هؤلاء، لو أنه مد إلى الإلهة الماكرة بالوئام يداه، أو وهب لها بالحب قلبه، غير أن الإلهة قد هاجها الغضب لرفض حبها، فارتفعت إلى السماء.
ووقفت «عشتار» أمام «عانو»
Anu
أبيها، وأمام «عانو» قالت: «أيها الوالد الرحيم: إن غلغامش يلحظني أينما سرت، إنه عد زهرات تاجي الإلهي.»
ومن حول رواية حب عشتار «لغلغامش» تقوم أسطورة طبيعية، يغلب أن تكون أسطورة ذات علاقة بفيض ربيعي. فإن «غلغامش» إله الشمس، أو البطل الذي اختص بالصفات التي يختص بها إله الشمس، قد تعشقته «عشتار» إلهة الحب، الإلهة الأم العظيمة، التي تتعهد برعايتها منتوجات الربيع الجميلة. فإننا إذا رجعنا إلى حوادثها الغرامية الأولى نقع على قصة «تموز» الخرافية، التي تقتل فيها «عشتار» حبيب قلبها وصفيها «تموز»، مشفوعة بقليل من الروايات الميثولوجية المتناثرة المتدابرة، ولا يبعد أن يكون لهذه الأسطورة اعتبارات تنجيمية - استرلوغية - في هذه المرحلة من القصة الكبرى.
ثور عانو
ولنرجع إلى سياق القصة؛ فإن «عشتار» في غضبها وسخطها تلجأ إلى «عانو»
Anu
أبيها، و«عاناتو»
Anatu
أمها، متوسلة إلى الأول أن يخلق ثورا شديد القوى ذا مرة، وأن يرسل به للقاء «غلغامش»، فيرفض «عانو» في البدء طلب ابنته، قائلا إنه لو فعل هذا أصاب القحط والجدب الأرض سبع سنين. غير أنه يرضى في النهاية، ويرسل ضد «غلغامش» بثور عظيم اسمه «عالو»
Alu .
أما الجزء الذي يعالج وصف المعركة في الألواح فمشوه تشويها كبيرا، غير أن الظاهر أن المعركة كانت حامية الوطيس، يخر في نهايتها الثور السماوي صريعا بضربة سيف من يد «غلغامش»، وتتطلع «عشتار» في النهاية غاضبة حانقة:
فتذهب «عشتار» وتتسلق أسوار «أرك» الحصينة، وهنالك بعد أن ترتقي أعلى قمة من الأسوار ترسل لعنة من لعناتها الأبدية قائلة: لتكن ملعونا يا غلغامش، أنت يا من أثرت في قلبي الغضب، ويا من قتل الثور الذي أرسلته السماء.
حينذاك يسمع إيباني لعنات الإلهة الغاضبة:
ولما سمع إيباني هذه الكلمات التي تفوهت بها «عشتار»، قطع أوشاج الثور إربا إربا ورمى بها أمامها قائلا: كما غزوته وقهرته سوف أقهرك، وسأفعل بك مثل ما فعلت به.
فتملك الغضب «عشتار»، وبلغ منها الحنق كل مبلغ. أما غلغامش ورفيقه فقد أهديا إلهة الشمس قرني الثور العظيمين، وبعد أن غسلا يديهما في نهر الفرات قفلا راجعين إلى «أرك».
وخرج الناس يحيون البطلين كلما مر بطرق من أطراف المدينة موكب استقبالهما.
أما بقية اللوح فيصف مأدبة أقامها غلغامش؛ ليحيي بها ذكرى انتصاره على الثور «عانو»، ويتلو ذكر بعض أحلام يرويها «إيباني».
أما اللوحان السابع والثامن فقطع وأجزاء، وما حفظ منهما يفتح للوهم والرجم بالغيب في قراءتهما مجالا واسعا. وليس من البعيد أن يكون اللوح السابع متضمنا وصفا للعالم السفلي، كما رواه «إيباني» عن غادة الهيكل «أوخوت»
Ukhut ، وقد خيل له في حلم من أحلامه الكثيرة، وقد لعن «إيباني» هذه الغادة في أحد الألواح؛ ولذلك عجل به القضاء إلى الموت.
ووصف الأرض السفلى في هذا اللوح يشابه وصفا آخر، روي في أصل آخر من الأصول الميثولوجية القديمة عن هبوط الآلهة «عشتار» إلى «حادس»
Hades . وفي الروايتين دلالة على المعتقد القديم في الأرض السفلى:
تعال، وانزل معي إلى بيت الظلام؛ حيث يسكن «إركلا»
Irkalla
إلى البيت الذي لا يذهب داخله إلى مكان آخر (أو يسلك منه إلى مسلك غيره)، إلى الطريق الذي لا عودة منه، إلى البيت الذي حرم ساكنوه من الضياء والنور؛ حيث التراب غذاؤهم، والأرض لذتهم، إنهم يكتسون كالطيور بالريش، إنهم لا يرون النور. إنهم يعيشون في الظلام.
موت إيباني
إن هذا الحلم المزعج كان مقدمة ظهر منها أن موت «إيباني» قريب، ولم يمض على الرؤيا زمان قصير حتى مرض «إيباني»، ثم مات بعد ذلك باثني عشر يوما من ابتداء مرضه. أما طريقة موته فغير بينة في الألواح، فإن إحدى القراءات التي قرئت بها الألواح المهشمة تظهر أن «إيباني» جرح، والأرجح أن يكون في وقعة حربية، وأنه مات متأثرا بجرحه هذا. وهنالك قراءة أخرى تظهره يقول لصديقه «غلغامش»:
لقد لعنت يا صديقي؛ ولذا سوف لا أموت ميتة من يخر في ساحة الحرب قتيلا.
والسبب في اختلاف القارئين راجع إلى تهشيم الألواح وتشويهها تشويها كبيرا. والراجح أن تكون القراءة الأخيرة هي الأصح. وهذا رأي الباحث «لويس سبنس» الإنجليزي ، فإن «إيباني» قد أغضب «عشتار» قادرة القادرات، ولا يبعد أن تكون اللعنة التي أسكنته الأرض وأوردته موارد الدمار هي لعنتها، وبموت «إيباني» ينتهي اللوح الثامن. أما اللوح التاسع فكله وصف لحزن «غلغامش» على موت صديقه ووفيه الحميم.
مطلب غلغامش
نزل في قلب «غلغامش» الخوف من الموت، فصمم على أن يذهب باحثا وراء أحد أسلافه «أوت-نابشتيم»، فقد يمكن أن يصف له طريقا يخلصه من براثن الموت، الذي لا بد أن ينشب فيه أظفاره يوما من الأيام، وأشفع الفكر بالعمل، وسرعان ما خرج ميمما شطر المكان الذي كان يعيش فيه «أوت-نابشتيم». وكان لا بد من أن يقطع في طريقه مفاوز جبلية موحشة، تسكنها الوحوش الضواري. ولقد حماه من شر هذه الضواري إله القمر «سين»
Sin ، فساعده ذلك على أن يقطع تلك المفاوز في أمن وأن يصل إلى نهايتها سالما.
وبعد ذلك وصل إلى جبل أكثر ارتفاعا من كل الجبال التي مر بها، ووجد أن مدخل الجبل محروس بأناس «عقاربة»، وكان هذا جبل «ماشو»
Mashu
أي جبل «الغروب» (جبل غروب الشمس)، وقد استوى في نهاية الأفق الغربي فاصلا بين الأرض العليا والأرض السفلى.
ووصل في النهاية إلى جبل «ماشو» الذي تحرس مداخله مسوخ مريعة، تصل ظهورها إلى مواقع السحاب، وتذهب أعضاؤها الأمامية إلى ما بعد «آرالو»
Aralu ، وعلى الباب أناس «عقاربة» يحرسونه. أما منظرهم فمرعب رهيب، وأما لمسهم ففيه الموت المحتوم، أما عددهم فكبير؛ لأنهم يغشون كل الجبال، وهم يظلون يلحظون الشمس من ساعة شروقها إلى مغيبها. ولما رآهم «غلغامش» اسود وجهه خوفا وفزعا، وأفقدته بشاعة منظرهم كل حواسه فخر صريعا.
ولما أراد «غلغامش» أن يلج مدخل الجبل، وجد طريقه مسدودا بهؤلاء العقاربة الذين لما رأوا لمحة الألوهة موسومة على محياه لم يحدجوه بنظراتهم المخيفة القاتلة، بل سألوه عن غرضه، والسبب في مجيئه، والدنو من جبل «ماشو». ولما أجابهم على أسئلتهم وأخبرهم أنه يريد الوصول مقر سلفه العظيم «أوت-نابشتيم»، ليعرف منه سر الخلود والشباب، نصحه العقاربة بأن يرجع عن عزمه. فقد ذكروا له أن أمامه وادي الظلام الذي لا يمكن أن يقطعه في أقل من أربع وعشرين ساعة «12 كاسبو»
12 Kasbu ، قبل أن يخرج إلى النور مرة أخرى، ورفضوا أن يسمحوا له بالدخول، غير أن «غلغامش» توسل إليهم بدموعه، وبعد لأي، قبل المسوخ أن يأذنوا له في الدخول.
ولما جاوز «غلغامش» باب جبل «الغروب» (بفضل كونه أحد آلهة الشمس)، دخل في واد مشتد الظلام عظيم الحلكة، وظل يضرب في مفاوزه «12 كاسبو»
12 Kasbu
أربعا وعشرين ساعة.
ولما شارف نهاية هذا الوادي أخذ الظلام يقل رويدا رويدا، حتى خرج إلى وضح النهار، فوجد نفسه في حديقة غناء واسعة الأرجاء، التفت أشجارها ودفقت مياهها، ومن بين أشجارها شجرة الآلهة، التي وصفت في المتن الأصلي بما يلي:
تحمل الأحجار الكريمة بدل الثمار، وقد تدلت فروعها وأغصانها على أجمل نظام رأته عين، وقد ثقلت بالأثمار التي تخطف البصر إذا حدق فيها الناظر.
وبعد أن ملأ «غلغامش» ناظريه من جمال الحديقة، انطلق يطلب الشاطئ.
ويصف اللوح العاشر اتصال البطل بإلهة البحر «سابيتو»
Sabitu ، وكان من عاداتها إذا قدم أحد عليه مظاهر الألوهة، وفي قلبه حزن، وظهر كأنه قد أنهكته الأسفار، دخلت قصرها وجرت وراءها رتاج الباب. غير أن «غلغامش» وهو يعلم أنه في حاجة إلى مساعدتها لكي يصل إلى مقر «أوت- نابشتيم»، أخبرها خبره وهددها يأسا بأن يقتحم عليها باب القصر إذا لم تفتحه. وبعد لأي رضيت «سابيتو» أن تنصت له طالبا منها أن تدله على طريق «أوت-نابشتيم». وكان شأن هذه الإلهة معه كشأن العقاربة؛ إذ رأت أنه لن ينفك عن غرضه، فأمرته أن يذهب إلى «آداد-إيا»
Adad-Ea
ملاح «أوت-نابشتيم» الذي لا يمكن بغير معاونته أن يتقدم «غلغامش» خطوة واحدة في سياحته القصية.
ولما لاقى «غلغامش» «آداد-إيا» نصحه أن يرجع، ولكن البطل كان على تصميمه وعناده، فبدأ يحطم سفينة الملاح بفأسه، فاضطر الملاح أن ينفذ رغبة «غلغامش»، فأرسل مساعده إلى الغابة ليحضر إليه ما يصلح به سفينته، وبعد إصلاحها سافرا معا.
غلغامش وأوت نابشتيم
ولقد أخذ «أوت-نابشتيم» العجب عندما رأى «غلغامش» قادما إليه. أما البطل «غلغامش» فكان قد أصيب بمرض عضال، بحيث أصبح غير قادر على أن يغادر السفينة. غير أنه أفضى إلى «أوت-نابشتيم» المؤله - وكان على الشاطئ منتظرا - برغبته في أن يعرف السر في الحصول على الحياة الخالدة. غير أن بطل الطوفان كان حزينا حزنا عميقا، فقال له: «إن الموت هو الكأس الدائر على شفاه بني الإنسان.» وكذلك لم يعط الإنسان من الكفايات ما يدرك بها الساعة التي سوف تظلله فيها ظلال الموت. إن «الأنوناكي»
Annunaki - أي كبار الآلهة - هم الذين يحددون الأقدار، ومعهم «ماميتوم»
Mammetum «موزع الحظوظ»، فهم الذين يقدرون الموت والحياة، غير أن ساعات الموت غير معروفة.
وتمتد القصة إلى اللوح الحادي عشر من غير اضطراب أو تهويش، وفيها يصغى «غلغامش» مملوءا شكا إلى أقوال سلفه العظيم:
إني أرى يا «أوت-نابشتيم» أن مظهرك لا يختلف عن مظهري، فإنك مثلي، لا تباينني في أي شيء، وإن فنك ليشابه فني، وقلبك يتحرق للقتال ... فكيف بك قد دخلت حظيرة الآلهة ...؟ كيف وقعت على سر الحياة ...؟
أسطورة الطوفان
ردا على هذه الأسئلة يروي «أوت-نابشتيم» أسطورة الطوفان البابلي. وهي أسطورة إذا رويت وحدها كونت قصة مستقلة عن قصة «غلغامش»، بل هي أسطورة ميثولوجية كبيرة الخطر عميقة المغزى.
إن نذير الطوفان قد غشي «أوت-نابشتيم» في حلم من الأحلام. سمع صوت الإله يقول: «أنت يا رجل «شوريباق»
Shurippak
يا ابن «أوبارا-توتو»
Ubara-Tutu ، حطم بيتك وأغفل متاعك وملكك وانج بحياتك. اترك أمتعتك ونج حياتك، واجمع من كل بذرة حية من كل نوع وادخل بها في الفلك.»
أما السفينة فكان لا بد من أن تصمم وتبنى بكل عناية بإرشاد «إيا»
Ea
وتعاليمه. ولما تكلم الإله أنذر «أوت-نابشتيم» الطاعة لأوامره القدسية، غير أنه كان في حيرة مما يجيب به الناس إذا سألوه عن السر في ما يتخذ من أهبة، فألهمه «إيا» بما يجيب به إذا سئل. «إن «بعلا»
Bel
طردني لأنه يبغضني.»
أما الغرض من هذا الجواب فكان ظاهرا جليا، غير أن الأسطر التي تأتي بعد ذلك في اللوح - وهي التي تكمل الكلام - فناقصة مبتورة.
أما غرض «إيا» مما ألهم به «أوت-نابشتيم»، فأن يصرف الناس عن الشك في أمر الفلك، بأن يعرفوا أن «أوتا» إنما يبني الفلك ليستطيع بعد بنائه الهرب من غضب «بعل»، الذي سوف يحل به وحده إذا هو لم ينج بنفسه، وإنه من الواجب عليه أن يتنبأ للناس بتهطال المطر، غير أنه يوحي إليهم أن تهطاله علامة خير وبركة، سوف ينزلها «بعل» على أهل «شوريباك»؛ لأن «أوت-نابشتيم» سوف يفارقهم.
الفلك البابلي
واستخدم «أوت-نابشتيم» كثيرا من الأيدي في تشييد الفلك. وفي أربعة أيام جمع المواد وأقام بناء السفينة، وفي اليوم الخامس عومها، وفي اليوم السادس شحنها، وكانت على استعداد في اليوم السابع. وعلى بدن السفينة التي كانت تبلغ مائة وعشرين ذراعا
120 cubits
3
بنى الظهر
4
من ست طبقات ارتفاعها مائة وعشرين ذراعا
cubits ، قسمت كل منها إلى تسع حجرات. وجعل ظاهر السفينة محكما حتى لا ينفد منه الماء إذ طلاها بالقار، كما طلى داخلها بمادة أخرى. ولأجل أن يعلن «أوت-نابشتيم» عن إتمام العمل في السفينة أقام مهرجانا عظيما، كمثل المهرجانات التي تقام عادة عند استهلال السنة الجديدة، فذبح الثيران وجهز كميات كبيرة من الخمر والزيت. وخضوعا لأمر «إيا» أحضر «أوت-نابشتيم» إلى السفينة كل ما يملك من ذهب وفضة، ثم من كل بذرة حية، وكذلك كل أسرته وأدواته المنزلية، ومن كل مواشي البر ووحوشه، ورجال الفنون الذين كانوا يعملون معه.
وكان تهطال المطر إشارة «لأوت» لكي يدخل الفلك وأن يغلق عليه الباب. ولقد استمر المطر يهطل طول الليل وعند الفجر. ظهرت في الأفق غيامة سوداء، وفي وسطها «رامان»
Ramman
يرسل الرعود، وقد تقدمه «نابو»
Nabu
و«مردخ»
Marduk
مارين كروسلين، يجوبان الجبال والسهول. وأرسل «أراجال»
Uragal
الإشارة السماوية، ومضى «نينيب»
Ninib
يشق الأفق ويرسل الرياح والأنواء تتفجر تفجرا. وحمل «أنوناكي»
Unaunaki
مشاعل موقدة، كانت أضواؤها تشعل الأرض لشدتها نارا. أما الأعاصير فكان يرسلها «رامان»
Ramman
فتصعد من الأرض إلى عنان السماء؛ فحجبت الضوء والنور، وخيم على الأرض ظلام دامس.
واستمر الظلام والفوضى يسودان الأرض يوما كاملا . وعجز الناس عن أن يرى بعضهم بعضا. ولقد كان الفزع شديدا، حتى إن الآلهة في السماء تملكهم الخوف، ونزل بقلوبهم الفزع الشديد، فكانوا «ككلاب الصيد»، يبكون حيارى آسفين على أنهم اشتركوا في تخريب الأرض وأخذوا بضلع في إفناء النوع البشري.
واستمرت الأنواء ستة أيام وست ليال حسوما، وانقطع المطر عن التهطال في اليوم السابع وبدأ الطوفان يتناقص، ثم يقول «أوت-نابشتيم»: «نظرت في البحر وصرخت بكل ما في من قوة صرخة فزع وحسرة؛ لأني رأيت أن كل النوع البشري قد تحول إلى رماد «صلصال كالفخار»
Clay ، وتبدلت الحقول الغضة إلى أحراش وضحاضح، وفتحت النافذة فوقع الضوء على وجنتي، غير أني نزلت من النافذة إلى ظهر السفينة، ثم وقعت صعقا أبكي مر البكاء، وعلى وجنتي جرت شئوني هتانة فائضة؛ إذ نظرت إلى الدنيا فما وجدتها إلا بحرا خضما متلاطم الأمواج.»
طيور الاستكشاف
وفي النهاية استوت السفينة على قمة جبل «نتسير»
Nitsir ، وهنا يختلف الأرخيولوجيون في قراءة الألواح. ففي قراءة منها تسمع «أنه بعد اثني عشر يوما ظهرت الأرض.» وفي أخرى تجد أنه: «بعد مسافة «12 كاسبو» ظهرت اليابسة.» وفي أخرى أن الأرض ظهرت بارتفاع اثني عشر ذراعا
Cubits
فوق الماء، ومهما يكن من الأمر، فإن السفينة ظلت ستة أيام فوق قمة الجبل، وفي اليوم السابع أطلق «أوت-نابشتيم» حمامة، غير أن الحمامة لم تجد موضع قدم تقف فيه، فرجعت إلى السفينة، فأرسل خطافا فرجع إليه ثانية؛ إذ لم يجد مكانا يستقر فيه. وأخيرا أرسل غرابا، ولما كان الوقت قد حان لأن تنحسر المياه من فوق الأرض، اقترب الطائر من السفينة، وظل ينعق متهاديا مترنحا ولكنه لم يدخل إليها.
وعندئذ أحضر «أوت-نابشتيم» أهل بيته وكل أمتعته إلى الفضاء، وقدم إلى الآلهة قربانا من حطب وخشب السيدر وعطر البخور، وارتفعت رائحة العطر إلى مقر الآلهة فاجتمعوا «كالذباب» - على ما تصفهم الرواية - من حول القربان، وكان من بين الآلهة «عشتار» سيدة الآلهة، فرفعت عقدها الثمين الذي أعطاه لها «عانو» وقالت: «ما هذه الآلهة! قسما بما حول عنقي من لآلئ «لابيز لازولي»
lapis lazuli
وجواهره، لا أنسى أبدا، ولأحملن ذكرى هذه الأيام في نفسي، ولا أنساها أبد الدهر، ليحضر الآلهة إلى القربان، ما عدا «بعلا» فإنه لن يحضر؛ لأنه رفض أن يستشير الآلهة وأرسل على الأرض الطوفان، وأسلم بكل شعبي إلى الدمار.»
ولقد غضب «بعل» أشد الغضب عندما عرف أن بقية من الإنسان لا تزال حية فوق الأرض، وأراد أن يهلك «أوت-نابشتيم» وأهله، غير أن «إيا» صرفته عن عزمه ودافعت عن صفيها «أوت»؛ لأنه لم يستشر الآلهة عندما أمر بحدوث الطوفان العام وإفناء الأحياء، ونصحت إليه بأن لا يعاقب إلا المذنبين بذنوبهم دون بني الإنسان في مجموعهم. وأخيرا اقتنع «بعل»، فجاء إلى سفينة «أوت» التي كانت تحمل البقية الباقية من النوع البشري، وأخذ بيد «أوت-نابشتيم» وزوجه وقادهما إلى العراء خارج السفينة؛ حيث أنعم عليهما وحباهما البركة. ثم يقول «أوت»: ثم قادوني بعيدا إلى مصب أحد الأنهار، وأمروني بأن أعيش هناك.
هذه هي القصة التي رواها «أوت-نابشتيم» «للبطل غلغامش». ولا يظهر للمطلع على القصة سبب في إفناء النوع البشري، اللهم إلا العداء الذي استحكم بين البشر وبين الآلهة، وعلى الأخص بين أبطال بني الإنسان وبين الإله المحارب «بعل» الكبير. ولكن يظهر بجلاء من سياق القصة أن «مجمع الآلهة» قد قرر تخريب مدينة «شوريباك» وحدها، وأنه لم يوافق على إفناء النوع البشري. ولا مراء مطلقا في أن هذه القصة عبارة عن أسطورتين تدامجتا معا على مر الزمان، ثم أصبحتا من بعد قصة واحدة تدور حول بطلين أولهما غلغامش بطل «أرك» وأوت-نابشتيم سلفه العظيم، الذي رفعته الآلهة إلى مصافهم.
ومما يدل واضح الدلالة على قدم هذه القصة أن الباحثين قد عثروا على لوح بجوار قرية أبي حية - «مدينة سيبار
Sippar » قديما - يرجع تاريخه إلى 2100ق.م.
وعلى الرغم من أن هذا اللوح مشوه تشويها كبيرا، فليس من الصعب أن تستدل من قراءته على مشابهات، تعرف منها أواصر العلاقة بين الرواية التي تروى فيه وبين قصة «غلغامش».
ولقد ذكر «بروسوس»
Berossus
ترجمة لأسطورة الطوفان في تاريخه المعروف، وقد تبدل فيها اسم «إيا» باسم «كرونوس»
Chronos
و«أوت-نابشتيم» بالملك «إكزيسوتروس»
Xisuthros
ومدينة شوريباك بمدينة «سيبار».
5
وفي هذه الرواية لا يمنح الخلود للملك وزوجه وحدهما، بل لابنته وملاحه أيضا. •••
إلى هنا نصل إلى الحد الذي يجب علينا ألا نتعداه، فلا شجرة الحياة التي أخذها غلغامش وسرقها منه الأفعوان في الطريق، ولا طلبه الخلود من «أوت»، ولا وصوله إلى «أرك» مرة ثانية، بمفيد لنا في سياق هذه القصة شيئا ولا هو بضروري لسياق البحث. أما الذي حدا بنا إلى ذكر هذه الأسطورة بالتطويل فضرورة، سوف تظهر في خلال ما سوف نمضي فيه من بحوث.
مقارنات
اقتصرنا في الصفحات السابقة على التقديم لهذه الرسالة، وعلى شرح الأوليات الضرورية التي هي بمثابة أساس لما سوف نمضي فيه من مقارنات. على أنني آمل أن أجد من اتساع صدر القراء لهذه الرسالة وتقبلهم إياها ما يشجعني على المضي في وضع غيرها من الرسائل المماثلة لها، وعلى الأخص في الأسس الاعتقادية البحتة التي قامت عليها النصرانية منتحلة من قصة موسى، ومن تاريخ العبرانيين منذ هبوطهم مصر إلى دخولهم أرض الميعاد؛ فإني أعتقد اليوم - وبعد أن استعمقت في قراءة تاريخ موسى - أن النواحي التي تختلف فيها النصرانية عن اليهودية - كما ألقاها موسى على شعب الله حين كان يعلمهم التوراة في التيه - أقل بكثير من النواحي التي توافق هذه فيها تلك، لا من حيث المراسيم وطرق العبادات والمعاملات، بل من حيث العقيدة الخالصة.
فقد قال موسى مثلا بأنه ابن الله، وحينا قال إنه الله، ذلك في حين أن الصبغة الاشتراكية التي اصطبغت بها النصرانية هي بذاتها الصبغة التي اصطبغت بها اليهودية، غير أنك لا تقع على هذا في أسفار التوراة ولا في أسفار العهد القديم، بقدر ما تقع عليه جليا واضحا في التلمود، وفي التفاسير التي فسرها به الربانيون والبطارقة من العبرانيين.
هذا ما أؤمل أن يكون موضوع بحث أضعه في مستقبل الأيام، وعندي أن هذه المقارنات من أخص ما يجب أن يكب عليه الباحثون في هذا العصر؛ تحقيقا للاتجاه الحديث في العلم والمباحث التاريخية.
فإذا رجعنا إلى الموضوع الذي أردنا أن نضلع به في هذا الموطن، وأردنا أن نمضي في مقارنات نقتطعها من الآثار القديمة، كان لا مندوحة لنا عن الرجوع إلى القصص التي روتها التواريخ المعروفة، أو التي تنوقلت باللقاح عن الأمم السابقة، لنثبت أن لهذه القصة أصلا ميثولوجيا عند الأمم القديمة، أخذ يتنقل في أرحام الدهور، وتنتحله أمة بعد أخرى، حتى بلغ في القرن السادس بعد الميلاد مبلغه الأقصى، فصب في القالب الذي نقع عليه في القرآن.
على أننا نريد أن ننبه هنا على أن بحثنا هذا ليس له بالدين صلة، وليس له بالعقائد نسب، فهو بحث خالص لوجه الحقيقة، لأهل الدين أن يؤولوا منه ما يشاءون، ولأحرار الفكر أن يستنتجوا منه ما يستنتجون، وليس المقام مقام تقرير ولا هو مقام إثبات أو نفي، بل هو مقام رواية للقصص المختلفة التي قصت في الطوفان، ومقارنة بعضها ببعض تلميحا لا توضيحا، وسياقا لا قياسا، وللحقيقة لا للدعاية؛ لهذا نمضي في هذه المقارنات مستهدين بهذه النزعة، ولنا في نهايتها كلمة لعلها تكون فاصلة صريحة، لا نحتاج بعدها إلى استرسال في شرح، أو إطناب في بيان. •••
في كل التقاليد الميثولوجية، قديمة وحديثة تقع على قصص في الطوفان، تختلف في التفاصيل والأوضاع، ولكنها تتفق في الجوهر والغاية.
فقد أفنى الطوفان أمة خيالية قيل إنها عمرت أرض الإغريق القديمة في العصر البرونزي، وكانت أمة اتصفت بكثير من الخشونة والقسوة، فكان السبب في تحطيمها وإفنائها مشابها للسبب الذي أفنيت من أجله عاد وثمود. والفرق أن الأولين أهلكوا بالمياه الطاغية، والآخرين أهلكوا بريح صرصر عاتية. وروي أن «زوس» الإله اليوناني المعروف قال «لهرمز»: «سوف أرسل على الأرض مطرا عظيما، لم يصب الأرض مثله منذ أن استقر الكون على صورته هذه، وإن النوع البشري برمته سوف يفنى من جراء ذلك، فإن ظلمهم يتعبني ويمضني.»
وكان الإلهان زوس وهرمز قد تنكرا في صورة بشرية، فأضافهما رجل عجوز يقال له «ديو كاليون» وامرأته «بيرا»، وأحسنا وفادتهما، وقاما على خدمتهما والعناية بأمرهما. فلما أتى الطوفان نجيا جزاء إحسانهما للإلهين الكبيرين. وكانت نجاتهما بأن نصح «زوس» للعجوز بأن يبني فلكا من خشب البلوط ويخزن فيه من المواد الغذائية قدرا كافيا، فلما تم بناء الفلك، دخل الزوجان فيه وأغلقا وراءهما الباب، وهنا فتح «زوس» ينابيع الغور الأبعد وآبار الينابيع السماوية، وأخذت السماء تمطر، وظلت في تهطالها أربعين يوما وأربعين ليلة كاملة من غير انقطاع، وبذلك فني القبيل البرونزي، ولم يسلم منه حتى الذين لجئوا إلى قمم التلال العالية. واستوى الفلك على جبل «بارناسوس»
، ولما غيض الماء خرج الزوجان من الفلك وهبطا من فوق الجبال ولجآ إلى كهف اتخذاه سكنا لهما.
1
أما في الميثولوجيا الهندية فتجد عقيدة أن الدنيا لا بد أن يفنيها طوفان مجتاح، ينتابها في نهاية كل دور من الأدوار الكونية.
2
أما هذه الأدوار فأربعة:
الأول:
دور الكريتا أو العصر الكامل
Krita .
والثاني:
دور الترتيا
Treta .
والثالث:
دور الدوابارا
Dwapara .
والرابع:
دور الكالي أو عصر الشقاوة والفساد
Kali .
ولا جرم أن هذه الأدوار تشابه بالتقريب الأدوار المعروفة عند اليونان والأمم الصلتية،
3
وكذلك نجد إشارات في الآداب السنسكريتية تدل على الاعتقاد في أن العالم قد دمر؛ لأن النوع البشري كان قد تكاثر فوق الكرة الأرضية إلى حد غير مرغوب فيه، فقد ذكر أحد حكماء الهنود أنه عندما بلغ تكاثر الناس حدا مروعا، وناءت الأرض ظلما بما حملت، اضطرت إلى أن تنخفض عن مستواها مائه «يوجانا»
Yojana ، ولما شعرت فوق ذلك بألم شديد يقض أطرافها، بل فقدت حواسها لثقل ذلك الحمل الكبير الذي ارتكز فوقها، لم تجد من وسيلة في وسط كارثتها هذه إلا أن تلجأ إلى حماية «نارايانا»
Narayana
إله الآلهة وكبيرهم.
4 •••
كذلك تجد في الآداب السنسكريتية أن «مانو» وهو عندهم الإنسان الأول، قد ذكر بأن الإله في صورة سمكة قد أخبره بأن الأرض لا بد من أن تصفى وتنقى، فأوحى إليه بأن «يبني سفينة عظيمة قوية الدروع ويجهزها بحبل طويل»، فلما ارتفعت المياه، قادت السمكة السفينة بواسطة الحبل في وسط الخضم المتلاطم الأمواج، وما زالت بها حتى رست على قمة «هيمافات» التي لا تزال تسمى «نوبانذا»
Naubandha ، ومعناها المرفأ أو الميناء، وكان «مانو» مصطحبا معه سبعة من «الريشي»
rishi ، وهم فقراء الهند وأهل الباطن عندهم من النساك المتعبدين.
5
ولا جرم أن هذه الأسطورة الهندية تزودنا بما نستطيع به فهم التصور السوميراني القديم في حقيقة «إيا»
Ea
التي مر بنا ذكرها من قبل في سياق الأسطورة البابلية. فإن الأسطورة الهندية تنص على أن هذه السمكة عندما كانت صغيرة لجأت إلى «مانو»، خشية أن يبتلعها السمك الكبير ويذهب بها، مهيبة أن يحميها وأن يظللها بعناية، فرفعها «مانو» الحكيم من النهر ووضعها في جرة، غير أنها أخذت تكبر في الحجم، فنقلها إلى وعاء كبير ومن ثم إلى نهر «الكنج»،
6
ثم شكت السمكة «لمانو» مع مضي الزمان من أن النهر قد ضاق بها وأنه لا يسعها، فأخرجها منه إلى المحيط الأوسع. وجزاء هذه الخدمات تجلى الإله في صورة سمكة، وأخبر «مانو» بما سوف ينتاب الأرض من طوفان مجتاح مدمر، ثم اقتاد السفينة في وسط الكارثة حتى استقرت على رأس الجبل.
فإذا كان لهذه الأسطورة الهندية أصل بابلي كما هو مرجح، جاز لنا أن نقضي بأن روح نهر الفرات التي كانت تدعى في أساطير بابل «روح الأرض» و«روح المكان» كانت تتصور في هيأة سمكة، وأن نماءها في النهر يعلل فيضانه؛ إذ يضيق بها على سعته. على أن التصور غير قاصر على أهل بابل والهند، ففي كثير من القصص الميثولوجي تقع على تعليلات لحدوث الفيضانات العظيمة بأن «وحشا عظيما لا بد من أن يكون قد لجأ إلى البحر أو البحيرة أو النهر فعلا ماؤه وفاضت جوانبه.»
7 •••
أما في الأقاصيص الصلتية (الأيرلاندية) فإن الطوفان ينسب إلى المسماة «سيشاير»
Cessair
حفيدة نوح، لما منعت عن أن تختص بمكان في الفلك فهربت إلى حدود الدنيا الغربية، كما أشار عليها صنمها الذي كانت تعبده.
8
وكان أسطولها مكونا من ثلاث سفن، غرق منها اثنتان قبل أن تصل شواطئ أيرلاندا. أما الذين نجوا فكانوا فضلا عن «سيشاير» أباها «بيث»
Bith
ورجلين آخرين، وفنتان
Fintan
ولادرو
Ladu
وخمسين امرأة، وكلهن قضين نحبهن على التلال ما عدا «فنتان»، فقدر لها البقاء إلى العصر الذي شهد أهله قدوم «بارثولون»
الجبار من أرض إغريقية. •••
كذلك تقع عند المصريين على أسطورة في الطوفان سجلتها رواياتهم الميثولوجية. فإن «رع» إله الشمس لما كبر وهرم عندما كان ملكا مسلطا فوق الأرض، بدأ الناس يلوكونه بألسنتهم. فدعا الآلهة إلى جمهرة وقال لهم: «لست براغب في أن أقتلهم (أي رعيته)، قبل أن أعرف ما سوف تقولون فيهم.» أما «نو» أبوه وكان إله المياه السرمدية القديمة، فقد أشار بإفناء النوع البشري جملة.
فقال «رع»: «أجيبوا دعوتي والجئوا إلى رءوس التلال؛ إذ كانت قلوبهم مفعمة بالخوف من جراء ما رموا به «رع» من بذيء الكلام.»
فذهبت الإلهة «هاتور-سخث» عين رع في إثرهم وأخذت تقتل النوع البشري فوق التلال التي لجأ أفراده إليها، غير أن «رع» أراد بعد ذلك أن يحمي البقية الباقية من البشر، فأمر بقربان عظيم يقدم للآلهة، مكون من خمير القمح ممزوجا ببعض الأعشاب ودماء بشرية، وصب هذا الشراب أثناء الليل فوق الأرض. «فلما أصبح الصباح وأتت الآلهة لتباشر مهمتها، وجدت أن الحقول تفيض بهذا الشراب الشهي فشربت وطربت ورقصت قلوبهم فرحا، وذهب الآلهة بعد أن انتشوا «سكارى»، ولم يعيروا النوع البشري اهتماما.»
9
ولا خفاء أن الأسطورة المصرية تشير إلى فيضان النيل السنوي، وإلى «الدماء البشرية» في «خيرة القمح»، وهي عبارة عن دماء إله القمح المقتول، أو إلى من يمثله من أهل الأرض. •••
أما الطوفان المكسيكي فأحدثه «شمس الماء»، الذي قذف فجأة بكل الرطوبات التي كان قد استمدها من الأرض، وأرسلها في صورة بخار فأفنى بذلك كل الأحياء وكل صور الحياة. •••
وتعتقد قبائل «النهوا»
Nahua
المعروفة بأسطورة طوفانية تشابه من وجوه كثيرة الأسطورة البابلية التي رواها «أوت-نابتشيم». وعندهم أن الإله «تتلا كاهوان»
Titlachuan
قد أوعز إلى رجل يدعى «ناتا»
Nata
بأن يصنع فلكا صغيرا بأن يجوف جذع شجرة؛ لينجو به من طوفان سوف يعم الأرض ويهلك من عليها. وبذلك نجا هو وزوجه «نينا»
Nena ، وقدما سمكة قربانا وهما في الفلك فاستثارا بذلك غضب كبير الآلهة عندما علم بأنهما نجيا من الطوفان، كما غضب «بعل» البابلي عندما علم بأن «أوت-نابشتيم» قد نجا من غضبه وبقي بعد الكارثة الكبرى. •••
وفي البرازيل أرسل كبير الآلهة «مونان»
Monan
نارا عظيمة لتحرق الدنيا وسكانها الأشقياء وتدمرهم تدميرا، فبادر ساحر من كبار السحرة إلى استنزال أمطار غزيرة ليطفئ النار، وظلت الأمطار في تهطالها حتى أصاب الأرض طوفان عظيم. •••
ويعتقد هنود كاليفورنيا في أسطورة طوفانية حلت بالعالم لتفني الشعب الأول، وكان ظالما قاسيا فاسدا، ويعتقد هنود الشمال الغربي بأنهم سلالة أسرة نجت من طوفان عام. وكذلك تقع بين سكان «الدنيا الجديدة» الأصليين على صور مختلفة من الاعتقاد في الطوفان وحلول كارثته بالأرض.
وكذلك يتفق معتقد الأمريكيين الأصليين في أن المخلوق الأول لم يستطع العيش على الأرض مع معتقد البابليين، وهنالك قصة عن «بريسوس»
Berossus ، سياقها أن الخلق الأول لم يفلح؛ لأن الحيوانات لم تستطع أن تتحمل الضوء فهلكوا وفنوا.
10
وهنا تقع على الجرثومة الأولى التي فرخت من بعد فكرة «العصور الدنيوية» أو «الأدوار الكونية»، والتي بلغت مبالغها القصوى بين الهنود واليونان والصلتيين (الأيرلانديين)، وظهرت جلية في صورهم الميثولوجية. •••
فإذا عدنا إلى قصة الطوفان كما رويت في سفر التكوين، رأينا أنها تشكل مادة واسعة للمقارنة بالقصة البابلية؛ حيث تتفق القصتان في أسسهما الجوهرية كما تختلفان كثيرا في التفاصيل.
11
إن الثقافة البابلية لم يقتصر مدها على الغرب؛ حيث غزت أطراف فلسطين، ومن ثم إلى بلاد اليونان في خلال العصر الفينيقي، بل امتدت أيضا إلى الشرق من «عيلام» إلى المرتفعات الإيرانية، ومن ثم إلى الهند. ولقد أشار كثير من ثقات الباحثين إلى المماثلة التامة بين الميثولوجيا السوميرانية والميثولوجيا الهندية.
12
وفي العصر الذي أخذت تؤلف فيه الأغنيات الآرية التي تغنى بها غزاة الهند من الآريين، كان الإله «فارونا»
Varuna
إله السماء - وهو يشابه عند الهنود «إياومترا» عند البابليين - قد أخذت شمس مجده في الأفول ، وكانت هنالك مؤثرات ثقافية أخرى تعمل في الخفاء ومن وراء حجاب.
فبينما كانت بعض القبائل الآرية تدفن موتاها في بيوت «فارونا» الحجرية، كانت قبائل أخرى تتصرف في موتاها حسب شريعة «أغني»
Agni
إله النار، بعد أن اتخذوه إلها يعبدونه ويتقربون إليه زلفى. وحوالي نهاية العصر الفيدي
13
وقعت غزوات جديدة فتح بها جوف الهند، فنقل الغزاة معهم معتقدات جديدة، منها تقمص الأرواح وتناسخها وأدوار الكون الزمانية. وكذلك أخذ نجم الإلهات في الصعود، كما أخذ نجم إلهة «الفيدا» في الأفول، مرتدين إلى منازل ثانوية تحت رئاسة براهما وفشنو وسيفا.
ولا شك في أن هؤلاء الغزاة كانوا قد تأثروا بالمعتقدات البابلية وانتحلوا الكثير منها قبل أن يهبطوا بلاد الهند، فمذاهبهم في أدوار الكون الزمانية مثلا والتي سموها «اليوغا»
Yoga ، تذكرنا على الأخص بالفكرات الفراتية
14
في الزمان والمكان. حتى إن الثقة الثبت مستر «روبرت براون» الصغير قد أظهر أن المذاهب المعروفة في «يوم براهما» في الهند تشابه مشابهة تامة نظاما فلكيا ظل ثابتا في أرض «بابل»، تلك الأرض التي كانت مغرسا لنظرية الأدوار الكونية على الأرجح.
15
على أن الشعوب الأجنبية التي تأثرت بأساليب الفكر البابلية. لم تبق طوال أزمانها في حالة استعباد عقلي؛ فإن الفكر الإنساني قد تنبه بانتحال المذاهب الدينية أكثر مما استعبد وخضع وصد تياره؛ لهذا ترى أن الفكرات المتعلقة بأسرار الحياة والموت قد تطورت تطورات كبيرة، وعلى الأخص في البقاع التي لم تتمكن فيها سلطة الكهنوت البابلي، من حيث المراسم التعبدية والقيود الدينية في شل حركة الفكر. وعلى هذا نجد الحال تماما إذا نحن رجعنا إلى التصورات المتباينة المتناقضة التي تنسب عادة إلى بطارقة «الفيدا» وصور الميثولوجيا السوميرانية. فإن «أوت-نابشتيم» نوح البابلي وغلغامش الشبيه بالآلهة في الميثولوجيا البابلية يقابلهما في الميثولوجيا «الفيدية» إله الموتى المسمى «ياما»
Yama .
والمعتقد أن ياما كان «الرجل الأول»، وهو مثل «غلغامش» خرج في سياحة طويلة مجتازا الجبال والوديان والبحار ليستكشف «الفردوس»، وتذكر التراتيل الفيدية أنه مستكشف «السبيل» أو «الطريق» الموصل إلى أرض «البتريس»
؛ أي الآباء، وهي الجنة التي يجتاز موتى الهنود الذين الذين لم يحرقوا الطريق إليها مشيا على الأقدام. وإنك لتجد أن الإله «ياما» لم يفقد على طول الأزمان صفاته وخصائصه الأصلية؛ فهو في الأشعار الحماسية والملاحم الهندية الكبيرة كما هو في أسفار «الفيدا» سائح سرمدي على طول الزمان.
16
وكان «ياما» وأخته «يامي»
Yami
في أساطير الهند الزوج الأول من بني الإنسان، وهما مماثلان من هذه الناحية للتوأمين السماويين في بلاد فارس «ييما»
Yima ، «وييمه»
Yimeh . أما «ييما» فيشابه «مترا» أو «مثرا». أما «فارونا» شقيق «مترا» التوأم فهو في الحقيقة يمثل إله الموت حاملا بيده الأنشوطة أو «الحبالة».
17
أما «ياما» الهندي الذي كان يدعى «سيد الآباء»
، فيأخذ مكان «مترا» في فردوس «الأسلاف» بجانب «فارونا» إله السماء والغور الأبعد، ويجلس تحت شجرة يعزف بقيثارة، ويحتسي شراب «السوما»
Soma
الذي يحبو الخلود. ولما وصل أعقاب «ياما» إلى الفردوس تقمصوا صورا نورانية «رقيقة منزهة عن الألوان».
18
أما في الميثولوجيا الفارسية فالظاهر أن «ييما» كان يحكم على جماعة من الناس هم من أولاده وأحفاده؛ لأن تقاليد هذه الميثولوجيا تنص على أنه عاش عمرا أطول من عمر آدم.
ومن أجل أن يخصهم بصفة البقاء بعد أن كانوا قد خصوا بصفة الفناء، يحملهم على أن يأكلوا طعاما محرما عليهم، بعد أن يوكل بهم «الديفاس»
Daevas
أي «الشياطين»
Demons ، ولكن ماذا كان هذا الطعام المحرم؟ إذا أردنا أن نبحث في طبيعة هذا الطعام، فهل لنا أن نصل بين هذه الأسطورة وأسطورة أخرى تنص على أن «مترا» جعل الناس فانين بأن أعطاهم طعاما من دهن «الأوركوه»
Ur Koh ، وهي البقرة البدائية التي تنص الأساطير الآرية التي انتحلتها المذاهب «المثراوية»
19
على أن من جثتها - بعد قتلها - خلق النوع البشري لأول مرة؟
20
وعوقب «ييما»؛ لأنه تطلع إلى الخلود، وحاول أن يكون خالدا هو والنوع البشري، خاضعا في ما تطلع إليه إلى وحي قوة سفلية، ولم ينتظر حلول العصر السعيد الذي كان سيظهر فيه «آهورا»
Ahura . أما الأستاذ «مولتون» فلا يخفى شكه في أن هذه الرواية ربما متت بصلة إلى أصل بابلي.
كذلك تجد أن «ييما» كأوت نابتشيم البابلي، كان ممن فسروا أسرار الخليقة ، فقد خصه «آهورا» كبير الآلهة بأن يكون حفيظه وعرافه وحارسه على الخليقة. ولم يمض على خلق الخلق ثلاثمائة سنة حتى غصت الأرض بما حملت من مخلوقات بشرية وغير بشرية، حتى لم تجد المخلوقات لكثرتها مكانا تأوي إليه.
21
بعد ذلك أصاب الأرض سهم ذهبي ارتشق في أحد جوانبها فشقها. وعند ذلك بنى «ييما» ملجأ ليلجأ إليه النوع البشري والحيوانات الداجنة في خلال شتاء سوف يشتد برده وتعصف رياحه. أما الأستاذ مولتون فموقن بأن هذه الصورة الميثولوجية تغري الباحث كل إغراء بأن يعترف بأن فيها أثرا واضحا من أسطورة الطوفان البابلية. وكذلك تقع في الميثولوجيا الجرمانية على «شتاء مهلك»، فقد تساءل «أوديني» في إحدى قصائده المعروفة في إيسلاندا: «أي المخلوقات سوف يعيش عندما يخيم الشتاء القارس الطويل على أهل الأرض؟» •••
إلى هنا نكتفي بإيراد ما استطعنا الوقوف عليه من مادة للمقارنات بين الروايات التي تناقلتها الشعوب البشرية جيلا بعد جيل.
أما ما أردنا أن نصل إليه من بحثنا هذا فلا يتعدى استجماع مادة واسعة حول موضوع بعينه. وليس من حقنا أن نصرف القراء عن التفكير فيها برأي نبديه، ندافع عنه وننفي غيره من الآراء الكثيرة التي تحوم حول هذا الموضوع. وهذه خطة سوف نسلكها فيما سننشر من مثل هذه الأبحاث.
أما إهداؤنا هذه الرسالة إلى «أحرار الفكر»؛ فلأنهم أكثر الناس قدرة على النظر في الموضوع نظرة بعيدة عن تعصب الدين وإفراط اللاأدرية.
صفحه نامشخص