قال: ليست نفاسة الحمل بمانعة من أن يكون ثقيلا؛ فالحمار الذي ينوء تحت أثقاله لا يعبأ أن تكون أثقاله تلك من ذهب أو من حطب.
قلت: ولكنك تستطيع أن تلقيه عن كاهلك إذا أردت.
قال: كيف أستطيع؟ إنه متصل بالروح مرتبط بالجسد؛ إن رئتي لتعلوان وتهبطان في صدري كأنهما منفاخ الحداد لا يفتر عن النفخ ليظل للنار وهجها واشتعالها، فلا مناص من أن تظل جذوة الحياة مشتعلة بين جنبي - رضيت أم كرهت - وقد أتمنى لهذه الجذوة المتأججة اللاذعة المحرقة أن تنطفئ فتصبح رمادا تذروه الأعاصير كيف شاءت على يابس أو ماء.
قلت: وما لرئتيك ولهذا الحمل الذي على كتفيك؟
قال: العلاقة بينهما وطيدة وثيقة؛ فهذا الحمل أطرافه في جوفي، وهو مشدود هناك إلى أوتاده بما هو - في الظاهر - أو هي من نسيج العنكبوت؛ ذلك أنه مشدود إليها بأنفاسي هذه التي ترددها رئتاي شهيقا وزفيرا، مشدود إليها بموجات خفية خفيفة من هواء، ولكن الويل لي من هذه الأنفاس الواهية التي تنسجها رئتاي خيوطا فتشد به هذا الحمل على كتفي لأنوء به، ووددت لو عرفت أين تكون أطراف هذا المنفاخ الذي ما ينفك يعلو في صدري ويهبط كي أمسكه عن النفخ لحظة فتخمد الأنفاس وتنحل الروابط وينفك الوثاق، وبهذا ينزاح العبء الثقيل عن كاهلي؛ إن أطرافه خفية، أمد البصر في جميع أقطاري فلا أراها، وأرهف السمع فلا يقع لها على حفيف أو رفيف، وكل ما أسمعه هو هذه النفخات تتوالى من الشهيق والزفير ما ابيض لي نهار أو احلولك ليل. إني لا أذكر الآن من هو الذي قيل عنه إنه ضاق صدرا بأنفاسه التي تتردد برغم أنفه، ثم كره أن تشعل له جذوة الحياة بهذا المنفاخ اللعين وهو راغم، فكتم أنفاسه حتى مات؛ لا أذكر اسمه الآن، لكني أكبره وأحييه، وأشعر إزاءه بالضآلة والصغر؛ لأنه رأى الرأي ففعل؛ وأما أنا فأرى ثم لا أفعل شيئا.
قلت: ما هذا الذي تراه ولا تفعله؟
قال: أرى الحكمة في التخفف من هذا العبء الثقيل، ثم لا أفعل شيئا في سبيل الخلاص منه. الحق أني لا أدري كيف يظل الإنسان مشدودا إلى ما ليس يرضيه، ثم يظل مشدودا إليه برغم أنفه، وهو عالم كل العلم أن الروابط التي تشده لا تزيد على نفخات من هواء، لو سد عليها الطريق لحظة واحدة لانتهى كل شيء.
قلت: كلا يا صاحبي؛ فالروابط التي تشدك إلى حملك هذا أقوى من هذه الأنفاس؛ فليست هي بنفخات من هواء كما ظننت، إنما هي الشعور بالواجب؛ واجب الحياة. نعم إنك تستطيع في أية لحظة شئت أن تتنكر لواجب الحياة لتظفر براحة الجسد راحة أبدية، لكنه الجحيم بعينيه أن تبث في نفسك القلق حين تتخلى عن واجب وجب عليك أداؤه بحكم وجودك.
قال: الواجب كريه أيا من كان فارضه وأيا من كان مفروضا عليه، لقد حكمت الآلهة على «أطلس» - في الأسطورة اليونانية - بأن يحمل السماء على كتفيه حتى لا ينقض بناؤها، والسماء هي السماء بأنجمها الزواهر اللوامع؛ فهل رأيت واجبا أسمى وأمجد من أن تكلف حمل السماء على كتفيك؟ وحملها «أطلس» ثم ناء بحملها، حتى إذا ما جاءه «هرقل» يسأله عن مخبأ التفاحات الذهبية التي كلف بالبحث عنها في أركان الكون وبين جنباته، والتي قيل له عنها إن مخبأها ذاك لا يعرفه إلا «أطلس» حامل السماء؛ أقول: إنه ما جاء «هرقل» إلى «أطلس» يسأله أين عساه أن يجد بغيته، حتى وثب «أطلس» إلى هذه الفرصة السانحة، ليتخلص من عبئه الذي أنقض ظهره، وقال لهرقل: لست بمستطيع أن تجدها بنفسك لأن منالها عسير، فاحمل عني هذه السماء لحظة حتى أعود إليك بها، ورضي «هرقل» مسرورا بحمل السماء حتى يحقق له «اطلس» بغيته التي لقي العناء في سبيل تحقيقها. وانطلق «أطلس» إلى حيث التفاحات الذهبية، ورآها هناك تلمع في بريق الشمس يحرسها أفعوان جبار، فتسلل وغافل الأفعوان وهو في غفوة ، وخطف التفاحات، وعاد مسرعا إلى حيث ترك «هرقل» في انتظاره يحمل السماء بدلا منه.
لكن «أطلس» حين اقترب من موضع «هرقل» تذكر بشاعة الحمل الذي حمله على كتفيه هذه القرون الطوال؛ ترى هل يفي بوعده ويعطي «هرقل» تفاحاته الذهبية ثم يعود هو إلى حيث كان تحت عبئه الباهظ؟ أو ينعم بهذه الحرية التي أتاحتها له الظروف فيتخلص من عبئه ذاك إلى الأبد؟
صفحه نامشخص