قال: ننفصل وحدنا وننشئ لجنة أدبية أخرى.
قلت: يفتح الله عليك وعلي، فأنا أعرف الناس بقدر نفسي، وما دمت على طريق الثقافة أحبو، فلأدع للأوصياء أن يهدوني سواء السبيل.
قلت ذلك عن إرادة ضعيفة، لا عن اعتقاد بصدق ما أقول؟ فكأنما كان صنوي الأحدب ساعتئذ قد كمن بين جوانحي، وأخذ يصيح لي من داخل نفسي صيحة غاضبة، بأنني إنما أعبد الأصنام، وبأن هؤلاء الكبار إنما صار معظمهم كبارا بقلة الحياء لا بكثرة العمل وجودة الإنتاج.
كان واضحا طوال هذه المرحلة - أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات - أن الفواصل لم تكن حادة بيني وبين صنوي الأيمن إبراهيم؛ فلئن كان مجاله الخاص الذي يستوعب نشاطه هو العمل العلمي الصرف؛ ولذلك فقد كان همه الأكبر في تلك الأعوام أن يجتاز امتحانات ويظفر بشهادات، فقد كنت أنا في الوقت نفسه أقف إلى جواره على حافة النشاط العلمي، حتى لقد اضطررت أن أتحدث باسمه عندما سنحت له فرصة البعثة إلى إنجلترا، وأوشكت أن تضيع منه بعد أن سنحت؛ نعم اضطررت أن أتحدث باسمه، وأن أضرع بين يدي الكبار نيابة عنه؛ لأنه كان في تحصيله العلمي مشغولا عما يجري حوله، وهل كان يتصور بأن هؤلاء الكبار لم يكن في ضمائرهم ما يمنع من وضع اسم مكان اسم في غفلة من صاحب الحق؟
ومع ذلك فهذه أمور لم تكن تثير سخطي ولا سخط إبراهيم إلى الحد الذي يشل فاعليتي ويجمد فاعليته؛ أما صاحبنا الثالث رياض - أحدب الظهر - فكان كلما لحظ شيئا كهذا تفجر من الغيظ، وإما أن يصب غيظه هذا على الورق، وإما أن ييأس من قلمه وورقه ويلوذ بمخبأ من داره على نحو ما فعل أخيل عندما أفرغ غضبه بأن انسحب من حومة القتال إلى ضيعته.
وكان التعبير عن الغيظ بالكتابة طريقته هذه المرة - وإن يكن هذا التعبير قد ظل مختزنا في نفسه فترة من الزمن قبل أن يسيل مدادا على سن القلم - فكتب بعنوان «أصنام تحطمت» - وإنك لتعرف أسلوب الأحدب حتى من العنوان - يقول: صادقتني أيام الشباب طائفة قليلة من رجال، نزلوا من نفسي عندئذ منزلة إكبار لا ينتهي وإجلال ليس بعده مزيد، ثلاثة منهم أو أربعة كانوا دوما أمام أعيني مثلا أتمثل به حين أطلب لنفسي، أو حين أسوق للناس مثلا، للرجل كيف يصلب عوده وتتعدد جوانبه وتتنوع نواحيه، كنت أنظر إليهم نظرة الطفل إلى أبيه، يراه عملاقا قادرا على كل شيء؛ فهو إن شاء أمسك بالقمر، وهو إن أراد أنزل المطر، وأراني بالقياس إليهم قطرة من محيط أو ذرة من جبل، آه لو كان لي قلم فلان وشهرته؛ أو لو كانت لي هذه الحيوية الدفاقة التي لفلان وهذا الأفق الواسع والعلم الغزير! إن شخصه ليملأ الفضاء حتى ليكاد يتعثر به السمع والبصر أنى مضيت، وانظر إلى فلان كيف كسب القلوب بترفعه عن الصغائر وازدرائه لما ينغمس فيه الناس إلى أذقانهم من توافه، وأين لك مكانة فلان في هدوئه واعتداده بنفسه حتى لتتوجه إليه الأنظار أينما حل ... ومضت الأعوام وازددت خبرة بالناس وطبائعهم، وراقبت عن كثب وفي شيء من الدقة والتفصيل، بعد أن كنت أنظر من بعيد وعلى وجه التعميم والإجمال، فأخذ نفر من هؤلاء العمالقة يصغرون ويضؤلون حتى لأراهم اليوم أقرب إلى الأقزام، كنت أحسبهم أقوياء بنفوسهم، فرأيت كيف يضعفون أمام أيسر الدوافع وأصغر ضروب الغواية ؛ إنها أصنام عبدناها وتحطمت.
الفصل السابع
موت في أسرة الأحدب
ازدادت الصلة بيني وبين الأحدب وثوقا وقربا، حتى لم يعد أحدنا يستغنى عن أخيه لحظة واحدة، وقد اطردت معنا الحياة على وتيرة واحدة؛ ففترة الصباح للعمل، وفترة ما بعد الظهر حتى ساعة متأخرة من الليل في أحاديث ينصرف شطر كبير منها في أن يقص علي وأقص عليه تفصيلات زياراتنا إلى مواضع حبنا، حتى لكأني أزور معه ولكأنه يزور معي. وتبدل الوضع بيننا، فلم يعد هو وضع المرشد للمسترشد، بل أصبح تعاونا بين متساويين في حياة واحدة، فما هو إلا أن أوحى الموقف بالمشاركة في مسكن واحد؛ لأنه توقع أن يزار وكذلك توقعت، وإذن فالخير في أن نسكن في منزل أرحب وأليق باستقبال الزائرين.
لبثنا شهورا - سافر خلالها إبراهيم إلى إنجلترا - وتيار الحياة ينساب مطمئنا هادئا، وكنا عندئذ كمن تحالف مع الزمن، فلا نحن نشكو ولا هو يفاجئ، وأوشك الأحدب أن يعتدل ظهره وتستقيم مشيته، وحدثني أن مقالاته الأدبية تغيرت نغمتها، والعجيب أنه وجد أن الكتابة أصبحت أعسر عليه؛ فما كان أيسر عليه قبل ذلك أن يكتب ثائرا محطما ضاربا بهراوته حيثما وقعت؛ وأما الآن فكلما هم بنقد ثائر لم يجد في نفسه مددا؛ ولذلك فقد كان يضطر إلى البحث عن موضوعات لا شأن لنفسه بها، فيكتب عن مذهب في الفلسفة أو نظرية في السياسة أو وجهة من وجهات النقد الأدبي، متناولا هذا وهذا وذاك من خارج لا من باطن نفسه وانطباعات خبرته، وكثيرا ما أوحت إليه بموضوعات الكتابة رسائل كانت تجيئه من إبراهيم يذكر له فيها أشياء كثيرة مما تصادفه في حياته الدراسية الجديدة في إنجلترا، وفي مدى التغير الذي يتحول به عقله من نظر إلى نظر.
صفحه نامشخص