أخذت كراسة المذكرات في لهفة شديدة؛ لأنني اعتقدت أني واقع فيها على كنز ثمين؛ ففي صفحاتها سأشاهد الأحدب وجها لوجه، فيعفيني مشقة البحث والتنقيب، ولكني وجدتها ممزقة منقوصة الصفحات مطموسة الفقرات، مما أكد لي أن كاتبها ربما أحس بعبث الجهد في الكتابة عن نفسه، فكتب ما كتبه ثم هم بتمزيقه، كما يفعل كثير من الأدباء والشعراء حين يقرنون حيواتهم الفانية بالأبدية فيرونها أقل شأنا من أن تشغل الوقت بالكتابة عنها.
ومهما تكن الحال فقد أسرعت العودة إلى منزلي في تلك الليلة، نافد الصبر مشوقا إلى استطلاع المنثورات التي بقيت مما كتبه الأحدب، ولم أنم حتى أتيت عليها تمحيصا وضما لما يمكن ضمه في أجزائها، وها أنا ذا أثبت ما ظفرت به من فقرات مرتبة بحسب ترقيم الصفحات:
ليست لحظات الزمن في حياة الإنسان سواسية كلها من حيث قوتها في توجيه الأحداث، وأثرها في تكوين الشخصية وتشكيلها؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها، ولا عجب أن تجيء حيوات الأفراد متفاوتة الوزن والقيمة، متباينة الخصوبة والثمر؛ فمنها ما تتابع فيه اللحظات على وتيرة واحدة، حتى لكأنها في نهاية الأمر لحظة واحدة مكررة معادة، فضلا عما تتصف به هذه اللحظة الواحدة من حواء؛ ولذلك فهي حياة تمضي وكأنها لم تكن شيئا، ولكن منها كذلك حياة تجيء لحظاتها ثقالا بأحمالها، فتمضي تاركة وراءها أثرا يبقى على وجه الدهر أمدا طويلا، وبأمثال هذه اللحظات الحبالى تصنع الحضارات وتبنى.
إن النظر إلى حياة بمجموعة أحداثها، لكالنظر إلى صورة فنية لا يسير عليها البصر في خط مستقيم بادئا من حافة الإطار هنا إلى حافة الإطار هناك، بل إنه ليقع أول ما يقع على نقطة مركزية فيها، كشجرة فارعة على يمينها، أو قمة شامخة على يسارها، أو بقعة لونية في أي موضع منها تلفت النظر إليها لتكون له نقطة ابتداء، ثم ينساب البصر في مختلف الاتجاهات، عائدا آنا بعد آن إلى نقطة البدء، فكأنما هذه النقطة المركزية ينبوع تفجرت منه سائر النقاط، وكذلك قل عند النظر إلى حياة فرد من الأفراد بمجموعة أحداثها، فها هناك كذلك يتجه الانتباه إلى لحظات أمهات كانت حاسمة في توجيه صاحب تلك الحياة.
فما هي تلك اللحظات الأمهات في حياتي؟
ليس منها ساعة الميلاد؛ لأن تلك اللحظة جزء من حياة سواي أكثر منها جزءا من حياتي؛ فقد فرضت علي ولم أردها، ولم يكن لي حيلة في إلغائها أو في إرجائها أو في تغيرها، إنني أحددها بشهادة الميلاد، مفترضا صدق أولئك الذين أملوها والذين كتبوها؛ لأنني لا أملك في دخيلة نفسي شاهدا على صدقها أو على كذبها؛ إذ لو احتكمت إلى حياتي من باطن لما وجدت فرقا بين أن أكون قد عشت على ظهر الدنيا خمسين عاما أو خمسة آلاف عام؛ فكل الدلائل التي يستدل بها على مدى ما عشته من سنين، دلائل خارجية عني، وليس فيها شاهد باطني واحد؛ لأنني إذا ركنت في الشهادة على ما تسجله الذاكرة، ألفيت الذاكرة لا تقفل راجعة إلى ساعة الميلاد، وقصاراها أن ترتد إلى السنوات الأولى بعد الميلاد، ثم يكتنف الضباب كل شيء فيطمسه، وإذن فالأمر كله - بالنسبة إلى ساعة ميلادي - مرهون بشهادة غيري، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تسجل دفاتر الحكومة، أليس عجيبا بعد هذا كله أن يتمنى إنسان لو استطاع أن يمد له في الأجل مائة أو مائتين أو ألفا من السنين؟ إنه لا يحمل في جوفه دليلا على أنه لم يعش هذا الأمد الذي يتمناه لنفسه، لو كان متوحدا معزولا فلم يجد أحدا من حوله يروي له نبأ مولده ونشأته الأولى، لما كان في وسعه أن يعلم متى ولد وكم عاش.
لا، ليست لحظة ميلادي من اللحظات الأمهات التي أعنيها؛ لأنني لا أعلم عنها شيئا من باطن نفسي، وكل علمي بها آت من سواي؛ فهي إذن أقرب إلى أن تكون جزءا من حياتي؛ ففي أول صفحة مقروءة، بعد عدة صفحات ممحوة لا تبين، قرأت العبارة الآتية:
من بين ما يروونه لي أني ولدت في منزل من قرية، زرته فوجدته بيتا نصفه الأسفل من حجر ونصفه الأعلى من قش وطين، لكنهم إذ يحكون لي أني في هذه الغرفة التحتانية المعتمة ولدت، وفي تلك الغرفة الفوقانية المضيئة ختنت، أحس كما لو كانوا يحكون لي تاريخ طفل لا شأن لي به الآن؛ فليس في جسدي اليوم خلية واحدة من خلاياه التي ولد بها، ولم تكن في رأسه عند ولادته فكرة واحدة مما هو في رأسي اليوم.
إنه لوهم غريب هذا الوهم الذي يوهم الإنسان باتصال شخصه من لحظة الميلاد إلى لحظته الراهنة، نعم إنها وسيلة نافعة لغيري من الناس أن يعدوني فردا واحدا متصل الحياة، بدأ في اللحظة الفلانية ولبث ينتقل هنا وهناك حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن؛ أقول: إنها وسيلة نافعة للناس لكي يسهل عليهم عد الأفراد عند الإحصاء، ولكن ما لي أنا وما ينفع الناس عند العد والحساب؟ المرجع عندي هو خبرتي كما أحياها واعيا بها، وليس ذلك الطفل الذي يروون لي عن زمان مولده ومكانه جزءا من تلك الخبرة الحية الواعية ...
ثم استقامت معي صفحات الكراسة، فقرأت فيها ما يلي:
صفحه نامشخص