فلما وصلوا وجدوه يصطاد فصاحوا عليه وقالوا: من يخلصك من أيدينا يا أخس العرب، وأذل من نصب في البداء الطنب، فوحق النار والنور ما بقيت تعيش أكثر من هذه الساعة.
فلما سمع المقداد كلامهم ألوى عنان جواده نحوهم وغاص في أوساطهم وطلع من أعراضهم، فما كان كحلبة ناقة حتى قتل منهم مائتين وسبعين فارسا وانهزم الباقون ودخلوا على الملك كسرى بأذل حال، وأخبروه بما فعل بهم وما شهدوه من شجاعته وفروسته، فغضب الملك كسرى غضبا شديدا، وأمر أن يركب ألف فارس من الشجعان الموصوفة والأبطال المعروفة، قال فخرج القوم والأبطال طالبين المقداد، فلما وصلوا إليه نظر إليهم وركب جواده وجعل يلعب بقنانه وهو يهدر عليهم كما يهدر الجمل الهائج، وكان الملك كسرى قد قال لأصحابه أريد منكم أن تأتوني بهذا الأعرابي سالما. فعند ذلك حمل المقداد عليهم حملة منكرة وغاص في أوساطهم وأكثر فيهم الضرب والطعن حتى قتل منهم خمسمائة فارس وانهزم الباقون من بين يديه كالأنعام الجافلة وولوا شاردين عن الأعقاب، فلما نظر إليهم وهم على تلك الحالة حن وأنشد يقول:
ألا فأخبروا مياسة ما فعلته
بفوارس كسرى كالليوث العوابس
تركتهم صرعى بأرض مخيفة
وأضرمت نارا في قلوب الفوارس
لعلي أرضي جابرا ما يريده
وأرجع إلى مياسة بالنفائس
قال البكري: وأما ما كان من أصحاب كسرى فإنهم لما رجعوا إلى كسرى مكسورين بأخس حال، وأخبروه بما شاهدوه من المقداد، فعند ذلك غضب الملك غضبا شديدا وناله أمر عظيم وقال: ويلكم، تبا لكم فارس واحد يقهركم وأنتم ألف فارس. ثم التفت إلى وزيره وقال له: ما تشير علينا بهذا الأمر؟ فقال الوزير: الواجب عليك أن ترسل له منديل الأمان وخاتم السلامة وتحضره بين يديك وتسأله عن مقاصده، وإن هذا الأعرابي ما رمى نفسه بهذا الخطر العظيم إلا لأمر جسيم. فعند ذلك قال الملك كسرى: ما لهذا الأمر غيرك. فقال الوزير: سمعا وطاعة لله ولك يا ملك الزمان. فعند ذلك أخذ الوزير خاتم الأمان ومنديل السلامة ومضى إلى المقداد. وكان الوزير فصيح اللسان قوي الجنان حسن المنظر لطيف المحضر، فسار وأخذ معه من العسكر مقدار خمسمائة فارس ولم يزالوا سائرين مع الوزير حتى وصلوا إلى المقداد، فلما رأى ذلك المقداد عرف أنه الوزير وقد أقبل مع موكبه وقد نشر رايته وحفت به الفرسان ركب جواده، واعتقل رمحه وتقلد سيفه والتقى بهم وهم أن يحمل، فناداه الوزير: مهلا يا فارس الزمان، فإني رسول الملك كسرى إليك، وقد عرف أنك شجاع شديد وبطل صنديد، أحب أن تحضر بين يديه ويسألك عن جميع ما تختار وعن سبب ما جئت به، وهذا الخاتم وهو خاتم الأمان من جميع ما تحذر من طوارق الزمان، وهذا المنديل خذه أيضا يقيك شر العدوان. قال: فعند ذلك ترجل المقداد من على جواده وسلم على الوزير وقبل الأرض وقال:
أيا خير مأمول لدفع ملمة
صفحه نامشخص