وتابع المماليك سياسة الأيوبيين، وظلوا يقاومون هؤلاء المستعمرين الأوروبيين إلى أن أخرجوا آخر جندي أوروبي من عكا في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، ولجأت بقايا هؤلاء الأوروبيين إلى جزيرتي قبرص ورودس، وأقامت فيهما دولا دأبت على مهاجمة السواحل المصرية، فأرسلت مصر في عهد السلطان برسباي أسطولا مصريا ضخما إلى جزيرة قبرص في القرن الخامس عشر فتح هذه الجزيرة، وعاد الجنود المصريون المنتصرون يشقون شوارع القاهرة، وفي ركابهم ملك قبرص أسيرا. فمن من شباب مصر يعرف هذه الصفحة المشرقة من تاريخنا؟ ومن منهم يعرف أن قبرص ظلت جزءا من ملك مصر إلى أن فتح الأتراك العثمانيون مصر فضموها إليهم.
وشغلت الدول الأوروبية بنفسها وقتا ما خضعت في إبانه مصر للحكم العثماني فأصابها الضعف والانحلال، فلما بدأت دول أوروبا نهضتها الحديثة عادت ترنو بأنظارها نحو مصر وبلدان الشرق العربي، تريد أن تحقق حلمها القديم.
وأتت حملة نابليون إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر، ولقيت من مقاومة الشعب المصري الأمرين، فلم يتركها هذا الشعب المجيد تنعم بالراحة لحظة واحدة، فقاوم السكندريون بزعامة السيد محمد كريم، وثار القاهريون ثورتهم الأولى والثانية، وقاد الشعب في مقاومته البطل المصري السيد عمر مكرم، وثار سكان دمياط والمنزلة والدقهلية بقيادة البطل المصري حسن طوبار، بل لقد قاوم المصريون الفرنسيين في كل مكان حتى أسوان، واضطر الفرنسيون أخيرا إلى الخروج من مصر بعد ثلاث سنوات.
وكانت جنود الإنجليز قد نزلت بأرض مصر مع الجند العثمانيين في سنة 1801 بحجة الإشراف على جلاء الفرنسيين وإعادة مصر إلى السلطان، ولكن إنجلترا بدأت تتلكأ بعد خروج الفرنسيين، تريد انتهاز الفرصة وإبقاء جنودها في مصر، غير أن الفرصة لم تواتها، واضطر جنودها إلى الخروج.
وبدأت إنجلترا تفكر منذ ذلك الحين تفكيرا جديا في العودة إلى مصر واحتلالها، وعادت إنجلترا في سنة 1807، ونزلت حملة فريزر إلى الإسكندرية، وتقدمت نحو رشيد، وتفرق الأهلون في المنازل حتى انتشر الجند الإنجليز في الشوارع والطرقات فأمطرهم الأهالي القذائف من كل نوع ومن كل صوب، فقتلوا أحد قوادهم وعددا كبيرا منهم، وأسروا عددا آخر، وفر الباقون منهزمين.
فللشعب هنا أيضا الفضل في مقاومة الإنجليز، وأرسل الأسرى ورءوس القتلى إلى القاهرة، فارتفعت روح الشعب المعنوية، وبدأت حركة التطوع، وبدأ الشعب يقيم الاستحكامات في القاهرة استعدادا للدفاع عنها، إذا قدر للإنجليز أن يتقدموا إليها، وتولى الإشراف على هذا كله وإذكاء الروح المعنوية البطل المصري عمر مكرم، فقد حدث هذا كله ومحمد علي غائب في الصعيد يطارد المماليك، ثم هزم الإنجليز مرة أخرى عند قرية الحماد، فبدءوا يفكرون في الانسحاب، وجلوا عن مصر في أغسطس سنة 1807 بعد ستة أشهر، ولكن ليتحينوا الفرص المواتية ليعودوا إليها مرة أخرى.
وقد واتتهم الفرصة بعد خمسة وسبعين عاما كان الشعب في خلالها قد بايع محمد علي واليا عليه بشرط أن يقيم العدل بينهم، ولكن محمد علي لم تكد تستقر له الأمور حتى عمل على التخلص من الزعامة المصرية ممثلة في شخص عمر مكرم، واستبد محمد علي بأمور الحكم كلها، وخلفه ولاة من أسرته، كانوا أسوأ منه بكثير إذ لم تكن لهم على الأقل نزعته الإصلاحية، إلى أن كان عصر إسماعيل وسياسته المضطربة، وبدأت دول أوروبا وخاصة فرنسا وإنجلترا تتدخل، ووجدت المراقبة الثنائية، وانتهى الأمر بعزل إسماعيل ونفيه وتولية توفيق، وفي عهد توفيق نزلت جنود بريطانيا أرض الوطن.
واليوم، وبعد أربعة وسبعين عاما يحمل الاستعمار عصاه علي كتفه ويغادرنا غير مأسوف عليه، فما قصة هذا الاحتلال؟
إنها قصة الخداع والخيانة، إنها قصة البغي والعدوان، إنها قصة المآثم جميعا التي ظللنا نعاني منها ثلاثة أرباع القرن، فاستمعوا أيها المصريون إلى هذه القصة نرويها فيما يلي، ففي إلمامكم بها عظة وذكرى، إن الذكرى تنفع المؤمنين.
مصر قبيل الاحتلال
صفحه نامشخص