لقد كان مما يثير عجبي حقيقة أن أرى هؤلاء الجنود - رغم عنف الضرب - واقفين في أماكنهم حريصين على ملازمة مدافعهم، وكنت أرى في أكثر من مرة قذيفة من قذائفنا تدخل في إحدى كوات مدافعهم، وكنت أقول لنفسي: هذا المدفع قد انتهى وأصبح في حيز العدم، ولكنني كنت أعود فأقول: كلا ثم كلا؛ لأن هذا المدفع بالذات كان لا يلبث أن يعود لإطلاق قذائفه في الوقت المناسب، وقد أتت قذائف أحد المدافع المصابة مرة بسرعة فائقة جدا حتى إنني لم أتمالك نفسي، ووثبت إلى حافة السفينة، ورفعت يدي صائحا: لقد أجدت العمل أيها الجندي المصري.
أما الأميرال «سيمور» نفسه فقد قال في ختام تقريره عن المعركة:
ولقد قاتل المصريون قتال الأبطال بأقدام ثابتة، وكانوا يجاوبون النيران الشديدة التي تصبها على حصونهم مدافعنا الضخمة إلى أن قتل عدد كبير منهم.
ولقد شهد المعركة المسيو «جون نينيه» عميد الجالية السويسرية في مصر سنة 1882 ووصفها في كتابه «عرابي باشا»، قال:
يجب أن نعترف بأن هذه مجزرة همجية لا ضرورة لها، ولم يكن لها أي مسوغ، وليس الباعث عليها سوى الشهوة الوحشية المتعطشة إلى القتل وسفك الدماء، ولقد كان بودي أن أسائل أولئك الضباط الذين كانوا يباشرون الضرب ويقذفون قنابل المتراليوزات ، هل يستطيعون حينما يعودون إلى بلادهم ويجلسون حول موائد الشاي في بيوتهم أن يتحدثوا إلى ذويهم عن آثار الفتك والتدمير التي خلفتها تلك المجازر البشرية؟ إني أشك في ذلك، فليت شعري أي إهانة لحقت الأمة البريطانية حتى تثأر لنفسها بهذه الفظائع ...؟!
ويستطرد مسيو نينيه فيصف بطولة المصريين في دفاعهم فيقول:
ومع ذلك فما كان أبدع هذا المنظر، منظر الرماة المصريين الذين كانوا قائمين على مدافعهم وهي مكشوفة في العراء وكأنما هم في استعراض حربي لا يرهبون الموت الذي يكتنفهم؛ إذ لم يكن لهم دروع واقية ولا متاريس، وكانت معظم الحصون بلا ساتر، ومع ذلك فهؤلاء الشجعان من أبناء النيل كنا نلمحهم وسط الدخان الكثيف، كأنهم الأبطال الذين سقطوا في حومة الوغى ثم بعثوا ليكافحوا العدو من جديد ويستهدفوا لنيران مدافعه، وكان الأئمة يزورون الحصون ويشجعون المقاومة، وقام الجميع بواجبهم من جند ورجال ونساء وصغار وكبار، ولم يكن ثمة أوسمة ولا مكافآت تستحث أولئك الفلاحين على أداء واجبهم، بل إن عاطفة الوطنية والثورة على الفظائع التي استهدفوا لها كانت تستثير الحماسة في صدورهم، وهم هم أولئك الشجعان المجهولون الذين لم يفكر أحد في آلامهم.
وفي منتصف الساعة السادسة مساء عجزت حصون الإسكندرية عن الاستمرار في المقاومة فسكتت، وأعطى الأميرال «سيمور» أوامره بالكف عن الضرب.
تخريب الإسكندرية
ولم يصب التخريب الحصون والقلاع وحدها، بل أصاب معظم أحياء المدينة، فأصبحت بعد المعركة مجموعة من الخرائب المهدمة، وكم كان «سيمور» نبيلا حين أبدى في تقريره أسفه لما أصاب المدينة، قال:
صفحه نامشخص