إن الذين يبخلون علينا بالقرب من المثل الأعلى من حريتنا التي أتانا الله إياها من فضله، يجدون أمثلة تقصيرنا في إظهار حرية الرأي في العلم وفي السياسة ما يحتجون به في إرادتنا على البقاء على ما نحن عليه، فإذا أحسوا من حريتنا في الآراء العلمية الإرادية قوة لا يقف أمامها استهزاء الجهلاء ولا غضب الكبراء ولا استدرار المنافع الخسيسة، لا يجدون مندوحة من التخلية بيننا وبين طريقنا إلى المثل الأعلى لحريتنا، ومن قصر النظر أن يظن أن هذه القوة المعنوية - قوة التمسك بالحرية والتماسك على نصرتها - غير كافية في تقريبنا من مثلها الأعلى، أقول وأؤكد أنها هي وحدها كافية في إنالتنا طلبتنا، فلنرض نفوسنا على الاستمساك بها ولننتظر النتيجة.
إن تقدمنا في نيل قسطنا الطبيعي من الحرية يستحيل أن يوجد ولو كانت في أيدينا أكبر معدات القوة الوحشية، وكان عددنا أضعاف ما نحن عليه، إذا كنا لا نتخلص من وصمة عبادة الآراء والأفكار من غير تمحيص؛ اعتمادا على مكانة قائلها، وإذا كنا لا نقطع بأيدينا تلك السلاسل التي قيدت عقولنا والأوهام التي أفسدت علينا الاستفادة من المبادئ الجديدة. إننا إذا جربنا أن نرفع منار الحرية في الميدان الذي لنا فيه حرية العمل وليس لنا فيه مزاحم ولا شريك كان ذلك فاتحة خير لإظهار شيء من القوة الضرورية لظهور الحرية وتأييدها. (2) الأصدقاء الخمسة
ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأعلى الذي يأتلف مع شرف الإنسان في هذا الزمان، وصرنا نمتعض من كل فكرة، ومن كل قانون، ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية المدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور وأن الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره ، هي الاستقلال التام.
لهذا نهضنا نهضة مباركة، وهدفنا هذا الغرض العظيم، وبدأنا نحن الاصدقاء الخمسة: «سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي، ومحمد محمود، وأنا»، نفكر في كيفية الاستفادة من المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس ويلسون رئيس جمهورية الولايات المتحدة، تلك المبادئ الحرة التي تنص في جملتها على أن كل أمة، مهما صغرت، لها الحق في اختيار مصيرها، وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها.
وفي نوفمبر سنة 1918 بدأنا نؤلف الوفد المصري، واستقلت من دار الكتب المصرية، وأخذنا نعمل في ذلك الحين على ما جاء في «مذكرات صديقي عبد العزيز فهمي» باشا.
1
ولا أستطيع بالضبط أن أروي الآن ما جرت به الحوادث من وقت تأليف الوفد، وإن كنت قد كتبت بها يوميات لكني اضطررت لإحراقها، كما سأقص هنا:
بعد أن نفي إلى مالطة أصحابنا الأربعة: سعد زغلول، ومحمد محمود، وإسماعيل صدقي، وحمد الباسل، قامت في البلاد ثورة عنيفه في أوائل سنة 1919، كانت من الخطر بحيث لم نكن نتوقعها، حتى لقد ألفت في مديرية المنيا جمهورية برياسه الدكتور محمود عبد الرزاق بك الطبيب، وقطعت سكة الحديد بينها وبين القاهرة، وكذلك قيل عن تأليف جمهوريات في بعض مديريات الوجه البحري، فدعتنا نحن أعضاء الوفد الباقين السلطة العسكرية للمثول أمامها في فندق سافوي، وكان بين ضباطها العظام مستر إيموس، فلما مثلنا أمامها وجه القائد العام إلينا الكلام، محملا إيانا مسئولية الثورة، فكان جوابي على هذه التهمة: «إن الوفد بريء منها، وإن تبعتها تقع على السلطة العسكرية التي نفت أربعة من رجال الوفد المصري بلا ذنب أتوه إلا أن يطالبوا بحرية بلادهم، ثم قابلت المظاهرات البريئة بالمترليوز، فغضب أهالي البلاد لقتل أبنائهم، وقاموا بهذه الحركة، وإني أنصح للسلطة العسكرية أن تستدعي حسين رشدي باشا، أو عدلي يكن باشا، أو ثروت باشا؛ ليؤلف وزراة تعمل على ترضية الأمة ترضية كافية، وبهذا يقضى على الثورة.»
وبعد لقائنا لرجال السلطة العسكرية بأيام قلائل، كنت مع صديقي عبد العزيز فهمي مجتمعين في منزل علي شعراوي، فوفد علينا صديقنا الدكتور يوسف نحاس، فقال لنا: «إنه علم عن ثقة أن السلطة العسكرية الإنجليزية ستفتش بيوت أعضاء الوفد الباقين، وتقبض على أربعة منهم لتقتلهم بالرصاص في اليوم التالي، وتصادر أملاكهم.»
على هذا الخبر قمت أنا وعبد العزيز باشا، وركبنا سيارة شعراوي باشا، وأوصلت عبد العزيز إلى منزله بمصر الجديدة، وذهبت إلى بيتي بالمطرية، فأحرقت كل أوراقي السياسية؛ لأنه لم يكن عندي الوقت الكافي لفرزها، وكان من بينها يوميات الوفد التي لم تخل صحيفة منها من ذكر رشدي باشا وعدلي وثروت باشا، أحرقتها خوفا عليهم من أن يصيبهم ما سيصيبنا من عنت واستبداد ونكال. (3) ويلسون يوافق على الحماية
صفحه نامشخص