العلم المصري والاستقلال
في سنة 1912 استقال سعد زغلول من وزارة الحقانية وخلفه عليها حسين رشدي باشا، وتولى يوسف وهبة باشا وزارة الخارجية، فذهبت إلى رشدي باشا أطلب إليه أن نبدل بالعلم العثماني علما مصريا يرفعه المصريون على سفنهم وبواخرهم؛ اتقاء لمثل ما وقع لتاجر دمياط، وكان وهبة باشا حاضرا الحديث، فقال: إن هذا العمل سابق لأوانه، ثم رجعت مرة أخرى إلى رشدي باشا أطلب إليه أن تعلن مصر استقلالها عن الدولة العثمانية، وأن تنصب الخديو ملكا عليها، ويعترف لها الإنجليز بهذا الاستقلال، ورجوته باسم حزب الأمة أن يعرض هذا على الخديو عباس واللورد كتشنر المعتمد البريطاني في مصر، وطلبت إليه ألا يخبر محمد سعيد باشا رئيس الوزارة في ذلك الحين، وبعد يومين استدعاني، وأخبرني أن الخديو مسرور جدا من هذه الفكرة، وأما اللورد كتشنر فقد رفضها؛ لأن إنجلترا لا تريد مضايقة تركيا، وقال لي: إنه أخبر بها سعيد باشا، فقال: «هذه هي الخيانة العظمى.» فذهبت إلى اللورد كتشنر وحادثته في الأمر، فقال لي: «لقد بسطنا يدنا لتركيا، فبصقت عليها، وولت وجهها شطر ألمانيا، ولو أنها كانت قبلت مودتنا لتغير الموقف كثيرا، ومع هذا فإني لا أجد الوقت مناسبا لقبول فكرتك.»
تأليف أول وفد مصري
رجعت إلى رشدي باشا بعد ذلك، وكان قد قابل الخديو مرة ثانية، فقال لي:«إن الخديو يرى أن يؤلف وفد من عدلي باشا، وسعد باشا، وأنت للذهاب إلى لوندره للسعي لتحقيق هذا الأمر مباشرة مع الحكومة الإنجليزية والرأي العام الإنجليزي، وعليه النفقات!»
واجتمعنا في بيت سعد زغلول باشا نحن الثلاثة لندبر الخطة، وأخذت أنا أنشئ حملة في هذا المعنى تحت عنوان: «سياسة المنافع لا سياسة العواطف».
هذه الأحداث امتدت أسابيع، في أثنائها قام الأمير عمر طوسون، وبعض الكبراء والأعيان لجمع التبرعات لمساعدة تركيا في هذه الحرب، وأخذوا يطوفون البلاد لهذا الغرض، ويشترون المؤن والأسلحة ويرسلونها للجيش التركي بطرابلس.
وكانت الصحف المصرية - عدا «الجريدة» - تشجع هذه الحركة، وتنشر أخبارا عن هذه التبرعات تنبئ أن الأمة كلها مع تركيا، فتداولنا نحن الثلاثة - سعد، وعدلي، وأنا - في هذا الموقف العسير؛ لأن الأمة وهي بهذه الحال من تأييد تركيا والإقبال على مساعدتها والتبرع لها، لا يمكن أن تريد الانفصال عنها، ولهذا لم ينجح المشروع، وسقط في الماء.
استقالة سعد زغلول من الوزارة
في أبريل سنة 1912 استقال سعد من وزارة العدل التي خلفه عليها رشدي باشا في الوزارة محمد سعيد باشا، وقد وقفت إلى جانبه في هذه الاستقالة التي تسببت عن حادث - لا داعي لذكره - يهم عابدين وقصر الدوبارة على السواء، وكان الطرفان متبرمين بسعد لصراحته التي كان يبديها في مجلس الوزراء، وصلابته في الحق والعدل، وحرصه على أداء واجبه، وأنا من الذين ينتصرون لاستقالة الوزراء والموظفين إذا لم يستطيعوا أن يؤدوا واجبهم؛ لأني أعتقد أن الوظيفة مهما يكن نوعها ضريبة على الموظف، لا منحة له، فإذا عجز بأي سبب عن أن يؤدي إلى أمته أكثر ما يستطيع أداءه من خدمة حقوقها وتحقيق المبادئ التي يعتقد صلاحها، فالواجب عليه أن يستقيل، وتكون استقالته مشرفة لشخصه، مشرفة لقومه، ودرسا نافعا للناس، ومثلا صالحا للصدق والإخلاص في خدمة المجموع، وليست الوظيفة لمصلحة الحاكم، ولكنها لمصلحة المجموع، وإن السلطة التي في يد الموظف إنما هي لمصلحة الأمة لا لمصلحة شخصه ولا يجوز أن يكون منها لمصلحة شخصه شيء إلا شعور الرضا؛ ذلك الشعور الذي يحسه الرجل عندما يقوم بالواجب عليه لقومه، فما دمنا نصدر عن هذه القاعدة، فلا عجب أن نصبنا أنفسنا أنصارا لفكرة استقالة الوزير أو الموظف كلما وضعت العراقيل أمام حريته في العمل، فأصبح يشعر بأنه لا يؤدي للأمة أكثر ما يستطيع أداءه من الخدمة، بل قد تطرق الغلو إلى اعتقادنا هذا، فجعلنا لا نكره استقالة الرجل العامل ذي العقل الناضج والإرادة القوية من خدمة الحكومة ولو لسبب شخصي لا علاقة له بالعمل ولا بالحكومة؛ لأننا في بلادنا لم نكن قد وصلنا بعد إلى الموازنة بين الأمة والحكومة في عدد الرجال الأكفاء المستعدين لأن يبنوا بأيديهم مجد أمتهم.
ليس هذا وحده ما فسر انتصاري لاستقالة سعد زغلول في ذلك الحين، بل أضيف إليه أنه استقال وترك الوزارة بين الثناء والإعجاب، وألقى درسا نافعا للحاكمين والمحكومين على السواء؛ فقد دخل سعد زغلول الوزارة بين تصفيق الأمة بأسرها واستحسانها، ولا معنى لإجماع الطبقات على استحسان دخوله الوزارة بكل ما عهدناه لوزير غيره عند تعيينه إلا ليكون ناصرا للأمة، مدافعا عن الحق، متشددا فيه.
صفحه نامشخص