قال الأستاذ سايس: «إن الذين أقاموا في الشرق وحاولوا الاختلاط بأهله يعلمون حق العلم أنه يستحيل مطلقا على الأوربي أن يتحد في النظر مع الشرقي، ومن المحقق أن الأوربي بادئ الأمر يظن أنه هو والشرقي يتفاهمان ولكنه يأتي وقت - عاجلا أو آجلا - يرى الأوربي نفسه يحس فجأة أن ذلك كان حلم نائم، ويجده أمام إنسان ذي ملكات عقلية غريبة بالمرة؛ حتى ليظنه من سكان زحل!»
وبهذا الرأي يدين اللورد كرومر، ويحكم به على الشرقيين الذين يعرفهم لا على اليابانيين والصينيين.
صدق الأستاذ سايس إذا كان قوله منصرفا إلى أن الأخوين: الشرقي والغربي مختلفان في النظر جدا فيما يتعلق بتفضيل المنفعة المادية على المنفعة الأدبية، أو بعبارة أخرى إن الشرقي بذكائة وأطوار تمدنه، ولغاته المملوءة بضروب المجازات، ووجوه القليل الاضطرابات، وطبيعة أوطانه، وما ألفه من التقاليد الدينية العريقة في نفسه ومواعظ أسلافه الغالب فيها تفضيل الزهادة؛ كل ذلك يجعله يميل بطبعه إلى أن يجعل للفضائل الأدبية كالإحسان والكرم والوفاء والإخلاص الديني المقام الأول في حياته الدنيا، ويفضلها على المنافع المادية، فعيب الشرقي قد يكون في سهولة أخلاقة وسلاسة انقياده، كما وصف به أرسطو سكان آسيا الذين يشهد لهم بالذكاء المقتضي صحة الإنتاج، ولكنه عاب عليهم ما ينتجه تأصل طبائع الاستبداد في حكوماتهم، ولا يظن المطلع على تقرير اللورد أنه أراد بقوله الإشارة إلى تلك الفضائل، خصوصا أنه ليس في مقام مدح الشرقي، ولكن الذي يطلع على هذا الموضوع من التقرير يرى أنه يريد بيان مسألتين:
أولاهما: أن أفكار المصريين عقيمة غير منتجة إلى حد أنه يصعب معرفة مقاصدهم وآمالهم السياسية، وأقام على ذلك دليلا هو أن أفكارهم بعيدة عن تطبيق هذه القاعدة: «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة»؛ لأن بعضهم يظهر له الرغبة في الرضا عن نتائج الاحتلال دون الرضا عن الاحتلال، وأن أحدهم طلب إليه تعيين مهندس إنجليزي لتقسيم الماء، وبعضهم طلب قاضيا إنجليزيا للفصل في قضية، ولا نتعرض هنا لذكر الأشياء التي حملت هؤلاء الأشخاص على مثل هذه الطلبات - على فرض أن طلباتهم تؤخذ على شعور المصريين جميعا - بل نرجئ هذا البحث إلى الفصل الخاص بالموظفين، وغاية ما نورده هنا هو مناقشة القاعدة «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».
وجد الاحتلال الإنجليزي في مصر بعلة إطفاء الثورة وتأييد سلطة الخديوية المصرية والمحافظة على المصالح الأوربية، ثم تدرجت العلة إلى إصلاح شئون الأمة المصرية وإعدادها لتحكم نفسها بنفسها، وليأمن الإنجليز على حقوقهم التي كسبوها في مصر، ثم ينصرف عنها الاحتلال.
متى كان هذا هو غرض الاحتلال، وكانت أعمال الاحتلال الظاهرة الحسية تؤيد هذا الغرض ، فيكون المصري الذي يرضى بالنتائج (أي بالإصلاح الذي لأجله جاء الاحتلال) ولا يرضى بالاحتلال هو إنسان عقيم النظر حقيقة.
أما وقد رأى المصري رأي العين أن الاحتلال لم يثبت له بالحس أن علة وجوده في مصر هو تأهيل مصر لأن تحكم نفسها بنفسها، بل رأى بين الغرض من الاحتلال وبين كثير من أعمال الاحتلال في مصر بونا بعيدا فأشكل عليه الأمر إلى حد أن المصري المنصف الكثير التدبر والتروي، الذي لا يشوب حكمه على الأمور في مصر غرض من الأهواء، يكاد كلما طابق بين علة الاحتلال وبين عمله يقع في روعه أن للاحتلال مقصدا خفيا غير ما يقول الساسة الإنجليز، ولا شك في أن مثل هذا معذور إذا رضي بنتائج الاحتلال دون الاحتلال الذي أشكل المقصود منه على العقول. •••
بشر المصري آماله حين رأى احترام الحكومة للحرية الشخصية التي نشرها الاحتلال وإلغاء السخرة وغيرها، والقيام بالأعمال النافعة، ولكنه لم يلبث أن رأى الاحتلال بعد ذلك بقليل قد ظهر في كثير من المواطن بمظهر المعاند، فأخذ أولا يقتسم هو والخديوية المصرية آراء الناس وميولهم، فأخذ الناس أيضا بمقتضى هذه المعاندة بين السلطتين أن يلتجئ كل إلى ما يرى في الالتجاء إليه مصلحته الذاتية؛ لأن المصلحة العامة هي في ألا يلتجئ الناس إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لأن انتشار ذلك يضيع شخصية الأمة، ويجعلها كما كانت لا حق لها إلا الطاعة للأمير - (إن سميت الطاعة حقا) - ولا ينكر أحد أن تنازع السلطتين من طبعه أن يجعل العناد يتخلل كثيرا من أعمال كلتيهما؛ كلما ظفر الاحتلال بالسلطة قرب كثيرا من الذين لا يهمهم إلا مصالحهم أو رواتبهم، ثم التفت إلى التعليم العام في المدارس الأميرية فوصل بها إلى هذا الحد الذي نراه اليوم، والذي جعل الحكومة نفسها تشكو قلة الأكفاء بل ندرتهم، ثم مال إلى النفوذ الشخصي للحكام الوطنيين فجردهم منه، وانحصر عملهم في الطاعة لغيرهم من الإنجليز سواء أكانوا رؤساء أم مرءوسين، ثم لم يستبدله بمشاركة الأمة له في الحكم، فاعتقد المصريون أو أغلبهم أن الاحتلال هو لمصلحة إنجلترا وأوربا بالذات، حتى لقد غلا بعضهم في تقدير فهمه العدل الذي جرى على يد الاحتلال، فقال: إن إنجلترا مهما كانت نياتها لمصر، لا يمكنها إلا أن تعدل ما دامت ترى أن لا مصلحة لها في الظلم.
فهل يكون المصري غير منتج إذا بنى فكره على الأعمال المشاهدة من خير وشر، واستنتج من هذه الأعمال نتيجتها اللازمة، وهي أن الاحتلال قد جاء ببعض الفوائد، ولكن تمشيه على طريقة حرمان الأمة من الحياة السياسية خطر على الأمة يوجد الضجر والقلق وسوء الظن بالاحتلال، كما قدمنا، فتكون النتيجة أن تطبيق القاعدة المذكورة على وجود الاحتلال (وهو الوسيلة) وعلى فوائده (وهي المطلب) من الصعوبة بحيث لا يمكن تطبيقها من غير تعسف إلا إذا أبان الاحتلال لمصر أنه يسعى في منح مصر حياة سياسية بالتدريج، والمؤمل أنه يعمل على ذلك، ولا ينكر منصف أن الحكومة اهتمت في هذه السنين الأخيرة بأمر نشر التعليم بين طبقات الفلاحين، ونجحت في تذليل كثير من الصعوبات التي كانت تقف في طريق تعليم البنات، ولو أضافت إلى ذلك منح الأمة شيئا من الاشتراك معها في العمل لاقتنع الناس بأن الاحتلال مؤقت وأنه لا يقيم إلا ريثما تصلح مصر لحكم نفسها بنفسها، ولأمكن بعد ذلك القول بحق أن «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».
ولكن هناك أمرا آخر لا يصح إغفاله؛ لأنه قد زاد من الاحتلال إبهاما على إبهام، وهو ما ذكره اللورد كرومر في خطبته الأخيرة في حفلة الوداع، تلك الخطبة التي هي منصبة في أغلب معانيها على الغرض السياسي الخطر الذي يحاول إقناع العالم به، وهو جعل مصر مستعمرة أوربية مختلطة يكون للأوربيين فيها الغنم، وعلى المصريين منها الغرم، فكان مهر قبول هذه الفكرة لدى الأوربيين أن صرح في خطابه بأن الاحتلال باق في مصر إلى ما شاء الله، فكان في هذا التصريح التباس جديد على الناس ... ولكن مع ذلك نرى أن هذا التصريح ليس من شأنه أن يؤثر تأثيرا جوهريا في السياسة المصرية؛ لأن وقت التفكير فيه لم يحن بعد.
صفحه نامشخص