فإن معتمدا سياسيا يجد من حكومته مثل هذه المساعدة في هذا الحادث، يستشعر من نفسه حزما وإن يكن بلا حزم، فكيف برجل عسكري كاللورد كرومر؟! وإذا أراد المطالع برهانا آخر على تقديس الحكومة الإنجليزية لكل رأي من آراء لورد كرومر في المسائل المصرية، فليذكر حادثة فاشودة
4
التي كادت تضرم نار الحرب بين إنجلترا وفرنسا، وما تلك الحادثة وطرد كولونيل مرشان ورجاله من الجزء الذي احتله من السودان إلا تاييدا لسياسة كرومر، وما الاتفاق الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا بعد تلك الحادثة على مناطق السودان إلا بناء على رأي لورد كرومر أيضا؛ تمهيدا لاتفاق أكبر وخطوة أوسع في سبيل التقرب بعد ذلك التباعد بين الدولتين.
ولما عقد ذاك الاتفاق، أي اتفاق سنة 1904، استراح اللورد من المسألة المالية الدولية في هذا القطر، كما استراحت دولته من المعارضة السياسية، ثم التفت إلى المسألة الدولية القانونية، فكتب قبل استقالته بعام فصلا طويلا عن وجوب تغيير الطريقة القديمة في الامتيازات الأجنبية، ثم نشر فصلا ضافيا في هذا الموضوع، أطلع عليه الناس وقتئذ ... فكانت حملاته على طريقة الامتيازات متتابعة كحملاته على صندوق الدين قبل أن ينال مراده.
وليس بنا من حاجة إلى زيادة الإسهاب في هذا الباب، فإن كل خطبة لرجال الحكومة الإنجليزية، وكل تقرير من تقارير لورد كرومر، وكل أثر من آثاره السياسية، يظهر حقيقة تلك السياسة التي اتبعها الشيخ الراحل، ولقد كان تقريره الأخير كوصية سياسية قبل رحيله عن هذا الوادي، وفي تلك الوصية لا ينصح دولته ببسط الحماية على مصر الآن؛ لأن بسطها يقضي بتغير في الحالة السياسية مع أن إنجلترا تعهدت في الاتفاق الإنجليزي الفرنسي، بأنها لا تغير شيئا من تلك الحالة، كما تعهدت فرنسا بأن تطلق يد إنجلترا في القطر المصري.
نتيجة تلك السياسة
فما هي نتيجة تلك السياسة كلها؟
نتيجتها أننا إذا نظرنا إليه بعين إنجليزي فلا يسع الناظر سوى الثناء عليه، وأما إذا نظرنا إليه بالعين التي يجب على المصري أن ينظر بها إلى مصلحة وطنه، فلا يمكننا أن نصوغ له شيئا من الثناء على عمله السياسي في مصر، فإنه حرم مصر من حياة سياسية تطمح إليها كل أمة حية، وإذا كنا لا نستطيع سوى الاعتراف بأن اللورد وسع نطاق الحرية الشخصية، فلا يمكننا أن ننكر أنه فعل العكس كل العكس مع موظفي الحكومة من المصريين فنزع حريتهم وسلطتهم ونفوذهم، وألقاها في أيدي الموظفين الإنجليز، فبات كثير من أذكياء الشبان المصريين ينفرون من وظائف الحكومة، ولا أدل على هذا كله من شدة احتياج الحكومة إلى موظفين ومستخدمين، ولا نظن أن قلة الكفاءة التي يذكرها اللورد في تقريرة إلا نتيجة التعليم الناقص، وسوء معاملة الموظفين والمستخدمين في الحكومة، وربما كان يرى خذلان التعليم الصالح موافقة لمصلحة بريطانيا العظمى؛ لأن اللورد كان ينظر في كل أمر إلى مصلحة دولتة قبل كل شيء؛ سنة الوطني الغيور على وطنه.
وإنه لمن هذا الطراز كلامه عن الوحدة الإسلامية وعن وجود التعصب لها في القطر المصري، مع أن التعصب ليس له فيه أثر على الإطلاق، ولكن المصلحة البريطانية، تريد أن تمثله هائلا مخيفا، ومن هذا الطراز أيضا كل عمل وكل اتفاق، وكل خطوة وكل حركة لذلك السياسي الإنجليزي العظيم.
وربما كان في وسع اللورد أن يحصل لدولته على أكثر من الفوائد التي حصل عليها، لو أنه صرف همته أيضا في كسب ولاء المصريين الذين وصف نفسه بأنه صديقهم، ولو أنه وضع للتعليم العام قواعد تجعله منتجا مفيدا للأمة، ودفع عن المعارف العمومية من كان يناهضها، واعتمد في الإصلاح على أكفاء المصريين، ورشحهم بحرية العمل إلى حسن الإدارة، ورغب عن محو الجنسية المصرية الصميمة بما قال من إنشاء جنسية دولية لمصر.
صفحه نامشخص