ثم أهز رأسى ولا يسعنى إلا أن أقول: لا أدرى! كل ما أدريه أنى كنت محمولا على متن تيار قوى، وكنت أقرأ، وأعمل، وأجد وألعب، وأشتهى وأطلب أو أقصر ولكن بغير فهم صحيح، أو إدراك تام لما أنا فيه، أو لبواعثه أو لمصائر الأمور، كانت الكتب تعدينى وتسحرنى، فأنظر إلى الدنيا بعيون أصحابها لا بعينى، وأحسها بقلوبهم لا بقلبى، وأتصور حياتى وأقيسها على ما يروقنى من صور الحياة فى هذه الكتب، وأنتحل آمال أصحابها ومخاوفهم، وهماتهم وعزماتهم، ومثلهم العليا، وصور الكمال عندهم، وأوحى ذلك كله إلى نفسى، ثم أزعمنى ندهم وقريعهم فأزهى وأتكبر، وأغتر، لأنى أرى نفسى كما رسمها خيالى الذى استمد من هذه الكتب لا كما هى فى الواقع، وكنت أفعل الشىء أو أتركه بوحى هذه الكتب.
وأضرب مثلا: عشقت مرارا، وقال فى صديقى الأستاذ العقاد قصيدة بعث بها إلى، فى ذلك الزمان:
أنت فى مصر دائم التمهيد
بين حب عفى، وحب جديد
وأذكر أنه بعث إلى يومئذ برقعة كتب فيها أسماء المعشوقات وإلى جانبها أرقامها، وكان الرقم الأخير 17 وسلسل الأرقام تحتها ووضع أمامها أصفارا لا أسماء، إشارة إلى أن معاشقى لا تنتهى، وأنه ينتظر أن يعرف الأسماء ليقيدها قبالة أرقامها.
وإذا قلت عشقت، فإنما أعنى الآن أنى اشتهيت، وأنى عانيت هذا الضرب من الجوع الذى يسميه الناس الحب، ولكنى لم أكن أدرك هذا يومئذ، أو أنظر إلى حقيقة الأمر فيه، وإنما كان ما أقرأ من الشعر يغرينى بنشدان الحال، ويطلقنى كالنحلة بين أزاهير الحسن، ويدفعنى إلى إيحاء الشعور بالحب إلى نفسى، فأتوهم أنى محب، وأنى عاشق، فأقضى الليل مسهد الجفن مؤرق النفس، أنظم الشعر وأقول فى هذا المحبوب أو ذاك.
وألقى المحبوب، فماذا كنت أصنع؟ لا شىء أكون معه كما أكون مع أى واحد من خلق الله، ولا يخطر لى حتى أن أتملى بهذا الحسن وأسعد بنضارته ورونقه، أكلمه كما أكلم غيره، وأجد أو أمزح، على نحو ما أفعل مع إخوانى بلا أدنى فرق وأرجع إلى بيتى، وأقعد بين كتبى، فأروح أتصور هذه الجلسة العادية على نحو آخر، وأخلع عليها من الخيال حللا ذات ألوان شتى، وأستبعد ما دار من الحديث وما كان من إشارات أو نظرات لم أعبأ بها فى حينها، وأحملها المعانى التى أريدها، فأسر بهذا، وأتألم لذاك، وأرى فى هذه الكلمة والإشارة أو النظرة، معنى الرضى أو التشجيع، وفى تلك معنى التدلل أو الملل، أو القصد إلى الإيلام ولا أزال هكذا حتى تجتمع مادة كافية من ضروب الإحساسات لنظم قصيد!
لا، لم أكن أعيش، أو أشعر بالحياة، وإنما كنت أنظم شعرا، وكنت وأنا أنظمه أتمثل الإحساس الذى أريد العبارة عنه، والعاطفة التى أتخيل الصدور عنها، وأوحى لنفسى هذا كله، وأنتهى بأن أعتقد بأن هذا هو الذى شعرت به حقيقة لا توهما، وأنه هو الذى خامر نفسى لا الذى أنشأته أنا لها بقوة الايحاء.
ولا يخلو من فائدة فى بيان هذه الحقيقة، وأن أقول إن قرض الشعر هو الذى كان المقصود والذى اتجهت إليه الرغبة وتعلقت به الإرادة وإن ما كان من حب متوهم وإنما كان ثمرة هذه الرغبة فى قرض الشعر، أى أن قول الشعر كان يبعث على التماس المادة له، كما يريد النجار أن يصنع كرسيا فيطلب الخشب وما إليه، والدليل على أن هذا كله كان بفعل الإيحاء، أن من أعرف الآن من نفسى أنى صغوت بقلبى إليها لم تكن قط موضوعا لشعرى، فإذا كنت قد نقلت قلبى مرات وطرت عن زهرة إلى زهرة فى بستان الحسن، فذاك لأن العاطفة لم تنشأ نشوءا طبيعيا، بل بإيحائها إلى النفس.
وفى وسع القارئ أن يقيس على هذا. فأنا لم أكن فى شبابى أتلقى وقع الحياة مباشرة، بل عن طريق الكتب، وكنت لهذا كالذى نومه غيره تنويما مغنطيسيا، فرأيه، وشعوره، وعاطفته، وهواه، وأمله وخوفه، وحبه وبغضه، هو ما يحدثه فى نفسه إيحاء منومة.
صفحه نامشخص