ولكن الرياضة البدنية وحدها تربي من الطفل جانبا واحدا، ونحن إنما نريد أن نكون من الطفل رجلا متزن الجوانب، لا تطغى فيه ناحية على ناحية أخرى، ولسنا نريد بالأمة أن يكون أفرادها رباعين وحملة أثقال، بل نقصد كذلك إلى تهذيب الخلق وتنمية المعرفة، فارتأى أفلاطون أن تضاف الموسيقى إلى التربية البدنية في هذه الفترة الأولى، فهي وحدها كافية لاتساق النفس وتوازن أجزائها، والموسيقى كفيلة أن تعلم العدل؛ لأنها تدرب النفس على التوافق النغمي، «ولا يسع ذا المزاج المتناغم إلا أن يكون عادلا، فالموسيقى تهذب الخلق؛ ولذا كانت عميقة الأثر في توجيه السلوك الذي هو أساس الحياة الاجتماعية والسياسية.» وقد قيل، جريا على رأي أفلاطون: «إنه إذا تغيرت طرائق الموسيقى عند قوم تغيرت قوانينهم تبعا لها.» تأكيدا لفعل الموسيقى في توجيه النفس، وكذلك قال كاتب في ذلك (
Daniel O’Conuel ): «سلمني قياد الغناء في أمة، وأنا كفيل بتغيير قوانينها.»
من ذلك يتضح أن الموسيقى وما يشبهها من مواد الدراسة كالشعر تكسب النفس والجسم صحة وانسجاما، ولكن أفلاطون لا يفوته أن يذكر في هذا الموضع ضرر الإفراط في تعليمها، فكما أن الإسراف في التربية البدنية ينتج لنا أجساما قوية لا أكثر، هي أقرب إلى الحالة الوحشية منها إلى حالة المجتمع الراقي، كذلك المبالغة في تعليم الموسيقى قد تذيب النفس وتذهب في ترقيقها إلى حد لا تقوى معه على الثبات في معترك الحياة، فينبغي أن نقف بالطفل موقفا وسطا، ونجعل دراسته مزيجا من الطرفين، ويظل كذلك بين الموسيقى والألعاب الرياضية حتى يبلغ من عمره السادسة عشرة، فتترك الموسيقى ولا تدرس له بعد ذلك إلا إذا اضطر المعلم إلى استعمالها لتخفيف مرارة العلوم الأخرى كالرياضة والتاريخ وما إلى ذلك مما قد تمجه نفس الطفل، ولا تقبل عليه إقبالا قويا، عندئذ ينبغي أن تصاغ هذه العلوم في شعر موسيقي لتسهل على النفس إساغتها، فأساس التعليم هو رغبة التعلم، ولا يجوز مطلقا أن تساق العلوم إلى عقله سوقا: «يجب أن تقدم مبادئ العلوم إلى العقل إبان الطفولة، ولكن على شرط ألا تكون إجبارية؛ لأن الرجل الحر يجب أن يكون حرا كذلك في تحصيل المعرفة، والعلم الذي يحصله الطالب قسرا لا يثبت في الذهن طويلا، فلا تلزموا أحدا، بل اجعلوا التربية في مراحلها الأولى أدنى إلى التسلية منها إلى الجد، فذلك أنفع وأجدى، وهو الوسيلة التي تتعرف بها ميول الطفل الطبيعية.»
6
إلى هنا قد أعددنا رجال الدولة المثالية أحرار العقول أقوياء الأبدان، ولكن عنصرا ثالثا ينبغي أن يضاف إلى تربية العقل والجسم، هو الأخلاق، وهي صلة الأفراد بعضهم ببعض، فلا بد أن يتكون من هؤلاء الأفراد كل متماسك، وأن يعلم كل عضو ما له من حقوق وما عليه من واجبات ... ولكن الإنسان مفطور بطبعه على الطمع والجشع، فهو راغب أبدا في توسيع أملاكه ولو أدى ذلك إلى الاعتداء على غيره، وهو لا يني عن التنازع والتقاتل للوصول إلى غرضه ، فكيف السبيل إلى التوفيق بين نزعات الأفراد المتنافرة؟ لا يريد أفلاطون أن يعمد في ذلك إلى قوة الشرطة لتقف كل إنسان عند حده؛ لأن ذلك في رأيه وحشية لا تليق بالمجتمع الكامل الذي يضع أساسه، فضلا عما تكلفه قوات الشرطة من مال كثير يمكن ادخاره لما هو أجدى لخير الجماعة نفسها، ويرى أفلاطون سبيلا واحدة تؤدي إلى صد الاعتداء، وذلك بأن نعلم الناس أن قوة روحية عليا واجبة التقديس والعبادة، ومعنى ذلك أن المجتمع لا يستقيم بناؤه بغير الدين؛ فالأمة كما يعتقد أفلاطون لا بد لها أن تعتقد في الله، ولا يكفي أن تعتقد في مجرد قوة كونية كائنة ما كانت؛ لأنها لا تبعث الأمل في النفوس، ولا تدفع الناس إلى التفاني في العمل، ولا تغري بالتضحية في سبيل شرف أو وطن، بل ولا تطمئن القلوب الكسيرة المكلومة، ولا توحي الشجاعة في النفوس اليائسة، بل لا بد من إله حي يؤدي هذا كله، وأكثر من هذا كله؛ فهو كفيل بإرهاب النفوس الشريرة الجامحة التي تميل إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، فيلجم شهواتهم كي لا تنطلق على سجيتها وفطرتها؛ لأنها ستخشى عقاب الله كما أنها ترجو ثوابه، ثم يحتم أفلاطون أن تزاد إلى العقيدة في الله الاعتقاد في خلود النفس؛ لأن الأمل في الحياة الأخرى يشد من عزائم الناس، فلا يرهبون الموت ولا يخشون المصائب والنكبات، فالإيمان أقوى سلاح يستند إليه الرجل في معمعان الحياة.
يبلغ الفتى سن العشرين وقد نال قسطا وافرا من الرياضة البدنية، والموسيقى ومقومات الأخلاق وشذرات أخرى من العلوم بحيث لا يبلغ السن إلا وقد ربي تربية متزنة الجوانب قد تناولت جسمه وعقله وخلقه، وعندئذ تجري الدولة امتحانا عنيفا قاسيا تصهر فيه الفتيان صهرا لتبلوهم أيهم أقوم، فأما المتخلفون المقصرون فتسند إليهم الأعمال الاقتصادية، زراعة وتجارة وصناعة، وأما الناجحون فيبدءون مرحلة تعليمية أخرى تمتد عشر سنوات، تربي فيها أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم، ثم يجري عليهم الامتحان مرة ثانية أعسر من سابقتها وأشق، فأما الراسبون فيكون منهم رجال الجيش ، وأما الأكفاء فيستأنفون الدراسة، ولكن ماذا يضمن للدولة ألا يتألب عليها الجيش وفي يده القوة كلها؟ لا شيء غير الدين، فهو كفيل بأن يروع الجنود فلا يتجاوزوا حدودهم، ولو فعلوا لارتكبوا إثما كبيرا إذ يعلمون أن الله قسم الأمة إلى طبقاتها الثلاث، فلا يجوز لأحد أن يضيق بما قسم الله له.
نقول: إن من جاز هذا الامتحان - وهم نفر قليل جدا - يعلم الفلسفة، فهم الآن في سن الثلاثين، قد قويت عقولهم واستعدت لإساغتها، ولم يكن من الحكمة أن يعلموا الفلسفة قبل ذلك خشية أن يستعملوها في الجدل الفارغ الذي لا يقصد إلى شيء إلا الجدل في ذاته وإلا تفنيد أقوال الناس، فيكونوا بذلك كالجراء التي تجذب هذا الشيء وتمزق ذاك لمجرد اللهو والتسلية، والفلسفة التي سيبدأ الطالب في دراستها تنقسم قسمين: أحدهما التفكير المستقيم الواضح، وهو يتناول ما وراء الطبيعة، والثاني معرفة طرائق الحكم، ويشمل علم السياسة، أما القسم الأول فيقضي الطالب في دراسته خمس سنوات يدرس فيها عالم المثل، فيكون قد بلغ الخامسة والثلاثين، وممن يبلغون هذه المرتبة، ينتخب رجال الحكم.
ولكن أفلاطون لا يتعجل بتسليم هؤلاء أزمة الدولة؛ لأن إعدادهم كان حتى الآن نظريا محضا، ولا بد أن يكمله جانب التطبيق العملي، ويتحقق ذلك بأن يسمح للطلاب بعد تلك السن أن يخالطوا الناس، وأن يضربوا في الحياة الاجتماعية بسهم وافر، لتصهرهم المنازلة وتحنكهم التجربة، فهنا ستفتح لهم الحياة عن صفحات لم يعهدوها في معهدهم العلمي المنعزل، وهكذا يلبثون في مضطرب الحياة يسعون لتحصيل عيشهم بأنفسهم خمسة عشر عاما، في خلالها تصفي هذه البقية الباقية من الطلاب، فمن ينوء تحت أعباء العيش يضاف إلى قوة الجيش، ومن يثبت أمام العواصف والأنواء والكروب فهو الجدير بمناصب الحكم، وتكون سنه عندئذ قد بلغت خمسين عاما قضاها في التجربة والتحصيل .
تلك هي الديمقراطية كما يراها أفلاطون، فليست عنده في مهازل التصويت بل معناها الصحيح أن يفسح المجال أمام الجميع، فتكون لكل فرد فرصة الظهور مساوية لفرصة زميله، فمن استطاع أن يجتاز تلك العقبات المتوالية التي توضع له في طريقه يساهم في حكم الدولة مهما تكن الطبقة التي نبت فيها، قد يعترض بأن حصر الحكم في طبقة ممتازة في كفايتها ضرب من ضروب الأرستقراطية، ولكنها أرستقراطية تختلف عن الأرستقراطية المعروفة في أنها ليست وراثية، فهي كما يسميها بعض الكتاب «أرستقراطية ديمقراطية» فلا فضل ولا امتياز إلا ما أثبت الشخص من مقدرة وذكاء، فابن الحاكم وابن الحذاء سواء، تتساوى أمامها فرصة الظهور، ويبدآن شوط الحياة من نقطة واحدة، فإن كان ابن الحاكم عاجزا غبيا سقط عند العقبة الأولى واضطر أن يكون عاملا، وإن كان ابن الحذاء نابغا انفسح أمامه الطريق حتى يبلغ ذروته حيث الحكم والسلطان.
يريد أفلاطون ألا تنصرف هذه الطبقة الحاكمة إلا إلى شئون الدولة، وأن تتفرغ لها بكل قلبها، ولكي لا تنشأ بين أعضائها الغيرة والمنافسة، اشترط أفلاطون أن تسود الشيوعية حياتهم. «لا يجوز لأحدهم أن يملك متاعا أكثر من ضرورته اللازمة، ولا أن يكون له دار خاصة يقفلها من دونه بالمغاليق فيصد من جاء يسعى إليه ... وكل ما يتقاضاه الحكام من أجر يجب ألا يزيد عن مبلغ محدود يكفي لسد حاجتهم طوال العام، وينبغي أن يشتركوا جميعا في موائد عامة للطعام، ويعيشوا معا عيشة الجند في معسكراتهم.»
صفحه نامشخص