السوفسطائيون
The Sophists
كان أناكسجوراس خاتمة تلك المرحلة الأولى من مراحل الفلسفة اليونانية، وقد خطا بالفلسفة خطوة جريئة فأخرجها من الطبيعة المادية، ونحا بها نحوا جديدا في البحث؛ إذ أيقن أن المادة وحدها لا يمكن أن تنتهي إلى هذا التناسق والتناغم والجمال، بل لا بد أن عقلا حكيما مدبرا يسلك بالمادة سبيلا سويا في هدى وبصيرة، إلى غاية معلومة مقصودة، وبهذا فرق أناكسجوراس للمرة الأولى في تاريخ الفلسفة بين المادة المجسدة، وبين القوة العقلية المجردة، التي تتحكم في تلك المادة، بين الجسم والعقل، بين الطبيعة والإنسان، فانصرفت الفلسفة منذ ذلك الحين إلى هذا الإنسان وخصته بالبحث والدرس، وكان أول من شق هذه الطريق هم جماعة السوفسطائيين.
ويجمل بنا قبل أن نتناول بالشرح آراءهم، أن نلقي نظرة عجلى على بلاد اليونان في عصرهم حتى نلم إلمامة سريعة بحالتها الدينية والسياسية والاجتماعية، وسنرى في وضوح وجلاء أن السوفسطائيين لم يخلقوا فلسفتهم من عدم بل انتزعوها من بيئتهم؛ فجاءوا صورة دقيقة لعصرهم، ولسانا ناطقا يعبر عما كان يخالج النفوس في ذلك الحين.
أرض اليونان وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزن الجبال، تنحصر بينها طائفة من الأودية، نشأت في أكنافها مدن متفرقة لا يتصل بعضها ببعض في سهولة ويسر، فلم تكن اليونان أمة واحدة تشرف عليها حكومة واحدة، بل كانت كل مدينة من تلك المدن مستقلة تحكم نفسها بنفسها، وتضع ما يطيب لها من قوانين، وكان معظم تلك المدائن بالغا من الصغر حدا بعيدا، حتى لم يتجاوز عدد سكان بعضها عددا ضئيلا من الناس، يستطيع أفرادها أن يلتقوا جميعا في مكان بعينه، يناقشون في أمور الدولة ويتناولون قوانينها ونظمها بالتعديل والتهذيب، وإذن فلم تكن المجالس النيابية كما نعرفها اليوم معروفة لديهم؛ لأن الحاجة لم تضطرهم إلى طريقة الانتخاب، فكان كل يوناني يمثل نفسه ويساهم في السياسة والتشريع، وقد أدى تفرق القوم في مدائن مستقلة إلى تنافرهم وتناكرهم، فتولد بينهم شعور المنافسة، وتمكنت من نفوسهم العصبية للبلد، بحيث كانت مصلحة المدينة فوق مصلحة الدولة، وأخذت نزعة الأنانية تتسع من عصبية للمدينة إلى عصبية الفرد لشخصه، فأصبح صالح الفرد فوق صالح مدينته، وهكذا استولى على الناس حب النفس واعتد كل فرد بذاته، يود لو يرتفع على حساب مواطنيه، ولعل هذا التطرف في تقدير الشخص لنفسه نتيجة طبيعية لما أصاب الفرد من إهمال وإذلال أيام كان زمام الأمر في أيدي النبلاء.
وقد ساير الديمقراطية في تطورها انحلال في العقيدة الدينية، فلم يلبث الناس أن نبذوا آلهتهم القديمة وراء ظهورهم؛ لأنهم شعروا بعد أن استنارت عقولهم أن تلك الآلهة لم تكن جديرة بالعبادة والتقديس، وما ظنك بآلهة نسبت إليها كل صنوف النقص والفجور، كما صورهم شعراء اليونان فيما رووا من شعر وأساطير؟ هذا إلى تقدم العلم والفلسفة من ناحية أخرى، فاكتسحت العقائد العتيقة البالية من الصدور، وأصبح الناس يعللون ظواهر الكون تعليلا طبيعيا دون أن يردوها إلى قوى الآلهة، ولقد مر بنا في الفصول السابقة أن بعض الفلاسفة كانوا يناصبون الدين العداء، في غير تكتم ولا خفاء، فنقد إكزنوفنس آلهة الشعب، وحاول ديمقريطس أن يفسر تقديس الآلهة بالخوف من ظواهر الكون.
طغت على اليونان موجة من الشك، وعمد الناس إلى القديم يهدمونه بكل ما وسعهم من معاول، فاندكت الأرستقراطية دكا وقام على أنقاضها بناء الديمقراطية، ومحا العلم والفلسفة عقائد الدين الجامدة، ولم تكد تهوى هاتان الدعامتان حتى انهار في أثرهما كل شيء، فانحلت الأخلاق والعادات، وذهبت هيبة السلطان واحترام التقاليد، واتخذ الجيل الناشئ من عقائد أسلافه موضوعا للسخرية والفكاهة ، وحطم القوانين والأخلاق باعتبارها أغلالا تلجم الإنسان وتعوق غرائزه الطبيعية، ولم يكن السوفسطائيون إلا مرآة مجلوة انعكست على صفحتها صورة هذا التيار الجارف، فمثلوا بفلسفتهم وتعاليمهم ما بدا من القوم في حياتهم العملية من ميول ونزعات.
لم يكن السوفسطائيون مدرسة فلسفية كالفيثاغوريين أو الإيليين، لها آراء خاصة تربطها عقيدة فلسفية، إنما كانوا طائفة من المعلمين متفرقين في بلاد اليونان اتخذوا التدريس حرفة، فكانوا يرحلون من بلد إلى بلد يلقون المحاضرات ويتخذون لهم طلبة ويتقاضون على تعليمهم أجرا، وكان هذا من أسباب كرههم؛ لأن ذلك لم يكن عادة الشعب اليوناني من قبلهم.
وكانوا يعلمون موضوعات مختلفة يتطلبها الشعب إذ ذاك، فبروتاجوراس
- مثلا - كان يعلم قواعد النجاح في السياسة، وجورجياس
صفحه نامشخص