ولم يكن رأي ديمقريطس في آلية الحركة وفوضاها ليمضي دون أن يترك أثره العميق في زعزعة دين اليونان وهدم آلهتهم؛ لأنه إن كانت العوالم تسير من تلقاء نفسها لم يعد للإنسان في آلهته أمل يرجوه، بل ذهب ديمقريطس في الكفر إلى حد بعيد، فزعم أن فكرة الآلهة قد نشأت من الخوف من الظواهر التي تحدث في الأرض حينا، وفي السماء حينا، فتنخلع لها قلوب البشر، كالزلازل والبراكين والمذنبات والشهب وما إليها.
ولما كان كل شيء في الكون مؤلفا من ذرات تختلف شكلا وحجما، كانت النار كأي شيء آخر مركبة من ذرات، إلا أنها ناعمة مستديرة، والنفس الإنسانية ليست إلا قبسا ناريا يتكون كذلك من ذرات ناعمة مستديرة، إلا أنها أنقى من النار المعروفة ماء وأشد صفاء، فإذا أدركها الموت تفرقت ذراتها.
وقد أدلى ديمقريطس برأي في إدراك الحواس للأشياء، خلاصته أن المرئيات الخارجية تنبعث عنها صور تقع على الحواس فتؤثر فيها، فتعكس صورها على صفحة الذهن، أما صفات الأشياء كاللون والطعم والرائحة فلا تقوم بالأشياء نفسها، ولكن تنفعل لها حواسنا؛ ولذلك نختلف في مقدار التأثر بها.
ويجمل بنا أن نختم القول عن المذهب الذري برأي ديمقريطس في السعادة، وإن لم يكن قائما على نظرية الذرات، فهو ينصح للإنسان أن يمتع نفسه ما وسعته المتعة، وألا يسيء إليها أو يكدر صفوها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليست السعادة مرهونة بالقصور المشيدة والضياع الفسيحة، إنما هي متوقفة على الحالة النفسية وحدها، فكلما ازدادت هدوءا وصفاء ازداد المرء سعادة ونعيما، والسبيل المؤدية إلى ذلك هي اعتدال الحاجات وبساطة العيش.
الفصل السابع
أناكسجوراس
Anaxagoras
ولد في كلازوميني
Clazomenea ، بلد من بلاد آسيا الصغرى نحو سنة 500ق.م، من أسرة نبيلة، وقد بسط الله له في الرزق فكان غنيا واسع الثراء، ولكن التكاثر لم يلهه عن طلب العلم، فلم يلبث أن خلف وراءه أرض الوطن ينشد الحكمة، ثم قصد إلى أثينا، ولم تكن بعد قد فتحت أبوابها لتستقبل الفلسفة، فكان أناكسجوراس أول من غرس بذورها في أرضها، ومنذ ذلك الحين أصبحت أثينا مركزا للفكر عند اليونان، ولم يمكث أناكسجوراس في هذا البلد طويلا حتى توثقت أواصر الصلة بينه وبين أعلام الرجال في ذلك الوقت، فكان صديقا حميما لبركليس
، ذلك السياسي العظيم، ويوريبيدس
صفحه نامشخص